16‏/11‏/2007

كل شيء مباح و ممكن

1
سجن غوانتانامو فضيحة أخلاقية وسياسية للإدارة الأميركية، ووصمة عار في جبين النظام القضائي، والعدالة في الولايات المتحدة. هذا صحيح. وصحيح، ثانياً، أن من حق المعتقلين فيه الحصول على محاكمة عادلة. وصحيح، ثالثاً، أن التحقق من إدانة أو براءة هذا الشخص أو ذاك لا يتأتى دون محاكمة. وصحيح، رابعاً، أن سوء الحظ ربما أوقع البعض في قبضة الأميركيين بعد احتلال أفغانستان، وساقه إلى هذا السجن الرهيب


ولكن الصحيح، أيضاً، أن عدداً من القابعين هناك من أعضاء، أو أنصار، القاعدة وطالبان. وأن هؤلاء وإن كانوا يستحقون محاكمة عادلة، إلا أن اعتبارهم مقاتلين في سبيل الحرية يعتبر إهانة للذكاء البشري، وتزييفاً للحقيقة. فهم إرهابيون لا يستحقون الشفقة أو التعاطف

وليس صحيحاً أن الإرهابي في نظر شعب ما هو المقاتل في سبيل الحرية لدى شعب آخر، إذا كان المقصود عصابة تقسّم البشرية إلى مؤمنين وكفّار، وتقترف أعمال قتل وحشية ضد المدنيين في بلاد العرب والعجم، وتتبنى أيديولوجيا تكفيرية تهدد الدول والمجتمعات على حد سواء
2


مع هذه الخلفية في الذهن، يمكن الكلام عن مصوّر "الجزيرة" المعتقل في غونتانامو، الذي أصبح بنداً ثابتاً على شاشة الفضائية القطرية. تُنظّم باسمه مظاهرات في مناطق مختلفة من العالم العربي، يخرج فيها محترفو مظاهرات واعتصامات، وباحثون عن ربع دقيقة من الوقت الثمين على الهواء
ويُستضاف باسمه أشخاص للكلام عمّن رآه، أو سمع عنه، أو منه، ومتى أكل، أو نام وقام. وبين الفينة والأخرى "يتنادى" حقوقيون ونشطاء في منظمات حقوق الإنسان لتنظيم حملات تطالب بالإفراج عنه. بينما ينهمك مخرجو المحطة في استغلال أفضل ما في "الفوتوشوب" من تقنيات لتركيب مشاهد بصرية درامية تجمع بين حمامة، أكثر أناقة من حمامة بيكاسو، ووجه السجين الذي أصبح أكثر شهرة من بعض رؤساء الدول
من حق كل مؤسسة، بصرف النظر عن بضاعتها، الدفاع عن موظفيها بطبيعة الحال. لكن التعامل مع قضية ثانوية وتحويلها إلى خبر عاجل يواظب على الدوام على مدار الساعة ينم عن ميل إلى المبالغة والابتزاز، أكثر مما يوحي بالتزامات مهنية وأخلاقية. ربما كان الشخص المذكور بريئاً، لكن تبرير وجوده في السجن برفض التعامل مع الأميركيين ضد المحطة يمثل استخفافاً بعقول البشر، من ناحية، وتحويلاً للمسألة برمتها من سوء حظ إلى ثبات على مبدأ، لا نعرف ما هو بالضبط، لكنه يكفل لصاحبه تسمية سجين من سجناء الحرية، من ناحية ثانية


3


وهكذا يتحرّك الحقل الدلالي خطوة إضافية، بدلاً من سوء الحظ، إلى ثبات على مبدأ. ولكن ماذا لو كانت لدى المذكور علاقات فعلية بالقاعدة وطالبان، تبرر اعتقاله، وتبرر الارتياب في كل محاولة للتضامن معه أو الدفاع عنه؟صحيح أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. ولكن تجربة سابقة توحي بأن الإدانة نفسها مرشحة للطعن إذا جاءت مخالفة لموقف المحطة وأصحابها من الحقيقة. ففي وقت سابق أدانت محكمة إسبانية مراسلاً للمحطة بتهمة التعاون مع القاعدة وطالبان، لكن "الجزيرة" طعنت في الحكم بدعوى أن القضاء الغربي متحيّز ضد العرب والمسلمين. وبالتالي تحوّل المُدان إلى شهيد حي، لمجرد أن الغرب يكره المسلمين، وأن الأميركيين لا يحبّون المحطة.وإذا وضعنا التهييج الأيديولوجي الرخيص عن الغرب والأميركيين جانباً، فليس ثمة ما يبرر تصديق "الجزيرة" وتكذيب الإسبان، أو اعتبار مؤهلاتها الأخلاقية أكثر جدارة من مؤهلات القضاء الإسباني. وبالتالي، ليس ثمة ما يبرر اعتبار المعتقل في غوانتانامو بريئاً لمجرد أن أصحاب الشغل قرروا ذلك
بيد أن موقف "الجزيرة" وأصحابها من الحقيقة يستحق معالجة أبعد من تحويل قضية لسجين في غوانتانامو، أو إسبانيا، إلى موضوع للابتزاز الأخلاقي، والأيديولوجي، والمزايدة السياسية، فهؤلاء في نهاية الأمر مجرد أسماك صغيرة في لعبة أكبر وأكثر تعقيداً، تستهدف بفضلها دولة، يقل حجمها بالمعنى الديمغرافي عن مدينة رفح، اللعب مع الكبار، والتصرّف على طريقتهم
وإذا وضعنا الآمال الكبيرة التي تتعب في مرادها الأجسام، وما تنطوي عليه الدونكشوتية القطرية من دلالات كاريكاتورية جانباً، ووضعنا نظريات المؤامرة، وخدمة الأميركيين، جانباً، ووضعنا علاقة المحطة بالقاعدة وجماعات الإخوان المسلمين، أيضاً، جانباً (دون التقليل من ضرورة تأمل هذه الأشياء في سياقات أخرى)، واكتفينا باستخدام حكاية الأسماك الصغيرة كوسيلة إيضاح، تكون هذه المقالة قد حققت الغرض، ونكون قد وصلنا إلى لبّ الموضوع

4


ولبّ الموضوع أن في علاقة الفضائية القطرية بالحقيقة ما يعيد التذكير بعالم أورويل، حيث تتحوّل استراتيجيات التسمية إلى ممارسة للكذب بتقنيات رفيعة. فباسم حرية التعبير، يتم بألف طريقة وطريقة (تتراوح بين مقابلة، وصورة، وصياغة، وتعليق، وتكرار) تقسيم العالم إلى مسلمين، وغير مسلمين، وتقسيم المسلمين إلى مجاهدين وقاعدين، وتقسيم العرب إلى ممانعين وخانعين. ورغم ما في تقسيماتٍ كهذه من فجاجة، وإثارة للغرائز، فإن التعامل معها كممارسة لحرية التعبير يتحقق بشرطين، إذا غاب أحدها، أو كلاهما، تصبح الممارسة شيئاً آخر غير حرية التعبير

أوّل الشروط انسجام التقسيم بالمعنى الأيديولوجي والسياسي مع أيديولوجيا وسياسة الجهة التي تموّل المحطة، وتتبناها، أو حتى مع مواقف جهات تقوم بالدعاية لها، وتعويمها بالمعنى السياسي والإعلامي. وثانيهما، المصداقية بالمعنى الأخلاقي، والسياسي
فلو كانت المحطة إيرانية، مثلاً، لما كان في الأمر ما يثير التساؤل، بحكم أن إيران دولة راديكالية، ذات طموحات إمبراطورية، لديها الكثير من الأعداء في المنطقة والعالم، وهي مستعدة للمجازفة، والدفاع عن نفسها بالسلاح إذا اقتضت الحاجة. وفي سياق كهذا يصبح توظيف الإعلام نوعاً من تحصيل الحاصل
ولكن ما أدراك إذا كانت المحطة قطرية، تبث من مكان لا يبعد كثيراً عن قاعدة أميركية أديرت منها الحرب على العراق، وتمارس، من بين مهام أخرى، حماية النظام في قطر
وما أدراك إذا كانت قطر تقيم علاقات جيدة مع إسرائيل، ويستأذن حاكمها من الإسرائيليين للسماح لطائرته بالوصول إلى بيروت، بعيد الحرب الأخيرة على لبنان، ليرفع شارة النصر في الضاحية الجنوبيةوما أدراك عندما تتصدّر أخبار اعتقال ومحاكمات الإخوان المسلمين في مصر نشرة الأخبار، بينما لا تحظى أخبار التنكيل بهم في سوريا، التي تعاقب على الانتماء إلى الجماعة بالإعدام، باهتمام يُذكر وما أدراك إذا كان في وسع المحطة العثور على أصولي "يختفي في مكان ما من موريتانيا" للتعقيب على الانتخابات في ذلك البلد يوم وقوعها، باعتبار أن كلامه عن التناقض بين الديمقراطية والإسلام يمثل حدثاً إعلامياً يصعب التغاضي عنه، بينما لا تستأثر زيارة شيمون بيريز للدوحة بأكثر من خبر في شريط الأنباء، لا في النشرة الرئيسة.ثمة أمثلة إضافية كثيرة، خاصة طريقة تعويم القاعدة في العراق والجزائر والصومال وباكستان، وتنظيمات الإخوان في أماكن أخرى. ومع ذلك، تكفي الأمثلة السابقة للتدليل على حقيقة أن ثمة الكثير من التناقض بين الرسالة السياسية والأيديولوجية للمحطة، وبين مواقف أصحابها، وأن ثمة الكثير من التناقض بين المكوّنات الأيديولوجية والسياسية للرسالة نفسها


5


ولكن الكلام عن تناقض كهذا للتدليل على وجود رائحة عفنة في مكان ما لا يحل المشكلة. فالتناقض، أي تبني الموقف ونقيضه، والجمع بين مواقف متناقضة بالمعنى السياسي والأيديولوجي، واعتناقها بالقدر نفسه من الحماسة، مسألة عضوية وذات دلالات أبعد من الافتقار إلى المهنية وممارسة الكذب وإثارة الغرائز. وهي بقدر ما تقصي أورويل تستحضر أورتيغا غاسيت
ثمة ما هو أبعد، تختزله الدونكشوتية القطرية، في فرضية مفادها أن كل شيء مباح وممكن، إذ يمكن للإنسان أن يكون صديقاً لإسرائيل وحماس، ولأميركا وللقاعدة، وللأصوليين في مصر، وللبعث العلماني في سوريا، في وقت واحد
كل شيء ممكن ومباح: دفع خمسمائة مليون دولار نيابة عن فرنسا لإطلاق سراح الممرضات البلغاريات، تمويل حماس، التحضير لنوبل عربية تنافس نوبل السويدية، تحويل الدوحة إلى ملاذ للأصوليين، وعاصمة لألعاب أولمبية قادمة، وقاعدة أميركية قائمة، وممثلية إسرائيلية دائمة، وحتى مكاتب لجولياني عمدة نيويورك السابق، المتخصص في شن حملات ضارية ضد العرب والمسلمين، وإنشاء فروع لجامعات أميركية، تستضيف شيمون بيريز شخصياً، والدخول على خط الأزمة في فلسطين، واليمن، والسودان، والصومال. ناهيك، طبعاً، عن شغل البزنس، والعقارات في الشرق والغرب. وما المانع أن تُضاف إلى هذه الأشياء فضائية تحرّك الماء الراكد في المنطقة، وتضرب هنا أو هناك تحت الحزام
بالنسبة لبلد في حجم ومكانة قطر السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية، معظم ما سبق من أشياء يدخل في باب الكماليات، ولن يعتب عليها أحد إذا نأت بنفسها عن تسعة وتسعين بالمائة من مشاغلها الإقليمية والدولية، فلا هي كوبا، ولا الفاتيكان
ومع ذلك، لا يمثل النموذج القطري سوى حالة كاريكاتورية لسيادة أخلاق، وصفها أورتيغا غاسيت بعد الحرب العالمية الأولى، بأخلاق الممكن والمباح، وهي تشبه إلى حد بعيد ما نعيشه في الوقت الحاضر في نظر أميركا، وإسرائيل، والحكومات العربية، والحركات الأصولية، كل شيء مباح وممكن. فالأولى تقتل وتحتل باسم القانون الدولي أو ضده لا فرق. والثانية تقتل وتحتل حتى لو وقف العالم ضدها، لا فرق. والثالثة تقمع شعوباً مغلوبة على أمرها، بلا حسيب ولا رقيب. والرابعة لا تتوّرع عن قتل المدنيين في كل مكان بلا تأنيب من ضمير، أو شفقة على أبرياء، وتشعل حرباً أهلية في كل مكان تجد موطئ قدم فيه
6


لم تكن الأمور، دائماً، على هذا القدر من السيولة والبشاعة. هنا، أيضاً، في فلسطين الواقعة بين سندان الاحتلال ومطرقة الميليشيات، وفي كل مكان آخر، اختلطت الأشياء. بيد أننا قد نتمكن بفضل ملاحظتين لغاسيت- حول ما آل إليه الحال في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى- من تشخيص الواقع بأدوات جديدة على الأقل
الملاحظة الأولى: ما تملّك الناس بعد الحرب من إحساس مطلق بالحق لا يوازيه سوى الإحساس بانعدام المسؤولية والواجبات. والثانية: ما تجلى لديهم من كراهية لكل ما هو فوق المتوّسط بالمعنى الإنساني والسياسي والثقافي، سواء تمثل في أفكار أو أشخاص. فالعامة، على رأيه، تحب المساواة، وتبغض التفوّق
المثير في الأمر أن غاسيت كتب هذا الكلام قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بقليل، وأن تلك الحرب أصبحت ممكنة بفضل صعود أيديولوجيات تستجيب لما لدى الناس من إحساس مطلق بالحق، وتمكنهم من التعبير عن كراهيتهم لكل ما هو فوق المتوّسط بإنتاج وعبادة ثقافات وأفكار فقيرة وما دون المتوّسط
وهذا الأمر مثير بشكل خاص لأن أيديولوجيا الأصولية الإسلامية فقيرة وما دون المتوّسط بالمعنى الإنساني والسياسي والثقافي، ولأن جماهيرها تملك إحساساً مطلقاً بالحق في كل شيء، وتكره ما يخالفها أو يختلف عنها في كل شيء
يمكن لهذه الجماهير وأيديولوجيتها في زمن المُباح والممكن أن تكون جزءاً من الكماليات بحكم ما تدر من الأدرينالين، وما تخلق من إحساس متوّهم بالأكشن، دون الاهتمام بتناقضها مع غيرها من محتويات الخزانة الأميرية، أو الانتباه إلى الفرق بينها وبين كماليات مثل الألعاب الأولمبية، رغم أن الأولى تسهم في القتل وتحرّض عليه، والثانية بريئة. هذه أشياء قليلة الأهمية في نظر "الجزيرة" وأصحابها، ففي عالم
يشبه عالم ألدوس هوكسلي الجديد الشجاع، بعد انهيار الحواضر العربية، ومعها السياسة والمعايير، كل شيء مباح وممكن
.
.
.
.
المقالة لحسن خضر