في ذلك العمر ، او قبله قليلا، كنت احسب أن قراءة بضعة كتب و أن المثابرة على المطالعة في سن مبكرة كانا يؤهلاناني للكتابة. كانا يؤهلاناني لكتابة قصة قصيرة مثلا, و كنت احسب أن قريحة مفترضة و حصيلة معقولة من المفردات بنفس النهايات و القافية و جرس موسيقي كانوا يؤهلنوني لكتابة الشعر بالرغم من عدم المامي ببحوره و بمحيطاته.
في سن العاشرة أنقذني والدي من ورطة قراءة كتابٍ لمؤلف بشوارب طويلة مثل شوارب ابو عنتر و ببنطلون شارلستون ينتهي بفتحة عريضة و بسوالف تسترسل حتى الخدين كالتي كان يمتطيها اغلب شباب النصف الأخير من سبعينيات القرن العشرين. كنت قد بدأت في قراءة كتابا صغيرا لا اذكر بالضبط شكل غلافه لكنني اذكر عنوانه جيداً " الصراع السياسي في الوطن العربي". كان الكتاب و مؤلفه يتحفانني بمصطلحات لم اسمع عنها من قبل من الانتلجنتسيا حتى الكومبردوار , و من البرجوازية حتي الاوليغارشية , و من البترودولارات حتى العسكرتاريا. كان الكتاب تحفة بالنسبة لي فلقد اثث قاموسي بمفردات غريبة. لم يكن متاحا لي آنذاك وسيلة لمعرفة معاني هذه المفردات سوى التخمين و الاستنباط، و هما خاضعان بدون أدنى شك للكثير من هامش الخطأ؛ لم يكن الدعس على غوغول متاحا في تلك الأيام و لم تتيسر لي إنسكلوبيديا باللغة العربية أنذاك؛ لذا كنت الوذ بوالدي ليفسر لي معاني المفردات الأعجمية. فكان والدي يجيبني احيانا بثقة و حماس, و احيانا أخرى بنوع من التردد، لكنه كان في كل الأحيان يمنحني ابتسامة مشفقة على حالي .
كان كتابا " حامضا" امدني بمفردات لكنه لم يوجهني الى طريق. في نفس الوقت تقريبا كنت أقرأ في المسجد كتيبا بسيطا و نحيلا عنوانه " السرطان الاحمر" . كان الكتيب خاليا من المفردات لكنه وجهني الي الطريق المعاكس تماما لما اراده صاحب الكتاب , الذي لم يكن إلا " عبد الله عزام" الذي خرج من " احراش جرش" الى " تورابورة" . ابعد والدي عني كتاب " عادل سمارة" المثخن بالجمل الثورية و المفردات " الحامضة" ، و اهداني سلسلة ملونة من الكتب المجلدة جيدا التي أصدرتها دار العلم للملايين . (ٱه من الملايين في زمن الاحاد و العشرات و النكرات). كانت السلسلة هي عشرين كتابا عن ثلة من المشاهير من ماري كوري حتى غاندي و من هانيبعل حتى زنوبيا. و ألحق والدي هذه السلسلة بكتاب صغير على غلافة صورة لغسان كنفاني و مكتوب عليه " اطفال غسان كنفاني" و بمجموعة قصصية لمحمود شقير معنونة بالولد الفلسطيني و قصص للصغار احسبها للشاعر على الخليلي بعنوان " عايش تلين له الصخور".
لم تفلح محاولات والدي في ثني عن تلصصي على كتبه.كنت أطالع ديون " لا " لنزار قباني , و استله معي الى المدرسة الابتدائية. وصمني هذا الديوان منذ الصغر زورا و بهتانا لسبب ما, أو على الأصح لقصيدة ما , بصفة حزبية و إيديولوجية لم تكن من صفاتي في ذلك العمر. كنت أقرأ في ديوان " سنى القحط يا قلبي " لشاعرة اختفت كان اسمها ليلي علوش. كنت اصدح بصوتي بقصيدة من ديوان رسم على غلافه المسيح مصلوبا و موزرا بكوفية فلسطينية،: فلسطينية العينين و الكفين و الوشم. كان ديوان عاشق من فلسطين لمحمود درويش. كنت أقرأ من ديوان " قرآن الموت و الياسمين " لسميح القاسم و أختلس النظر لكلمات بذيئة كتبها مظفر النواب في ديوانه " وتريات ليلية" . كنت التهم كل شيء. أقرأ " ام سعد" و "موت سرير رقم ١٢" و اغني "ديوان الحماسة" و أطلع على " ميرامار" و كتب لجورجي زيدان .
كنت اسابق الزمن في الصف لأقرأ الكتب الصغيرة التي كان يعيرني إياها أولاد الصف . كنت اسند كتبا صغيرة , أكبر قليلا من حجم كف اليد, الى رجلى تحت البنك, و أقرأ خلسة الغاز " تختخ" و "نوسة" و بقية " المغامرين الخمسة", و الشياطين الإثني عشر , و مختصرات مسرحيات شكسبير و روايات تشارلز ديكينز المترجمة. كنت أقرأ بحذر و اقنع مدرس الفصل أنني اتابع شرحه. كنت احسد زملائي على أن يكون لك اخ او اخت يكبرك و تكبرك بسنين كثيرة تؤهله أو تؤهلها أن يملك أو تمتلك ثروة من الكتب. كنت احسدهم و استعير كتبهم لسويعات .
يبدو أن نرجسيتي قد اقنعتني بانني قادر على كتابة قصة قصيرة . الجلوس أمام المكتب و قراءة و تلخيص كتاب اميل توما الصغير و لكن السميك " جذور و تطور القضية الفلسطينية" خلال ذلك الصيف منحاني ثقة بنفسي. متابعة ما كان يحدث في الأوزاعي و خلدة و المتحف و الفاكهاني طوال الصيف جعلتني أتصور أن ذلك منحني لغة تقريرية تجاري لغة " عادل مالك " الذي كان يحاول تقييم الموقف على أثير راد مونتي كارلو.
****
كان مذيع التلفزيون الاردني يطلب من المشاهدين ابعاد الاطفال و اصحاب القلوب الضعيفة و الاحاسيس الرهيفة عن شاشات التلفزيون. كان الذباب يحوم حول التلفزيون . كان والدي يتصفح نسخا مجانية بالألوان من مجلات التايم و النيوزويك. كان والدي يقرأ من المجلات الملونة و يترجم لي من الانجليزية أن البلدوزر كان يراقب بمنظاره ما يحدث في المخيم و في حي فقراء العاصمة من عمارة عالية؛ أن إيلي حبيقة كان يقود جيشا من السكارى و المأفونين المسلحين بالبلطات و سكاكين المطبخ و الأسلحة النارية الخفيفة ؛ و أن قنابل الإنارة كانت قد حولت ليل ايلول الى نهار هندي. لم اكن قد شاهدت قنابل الإنارة آنذاك ، لكن سكني بمحاذاة مستوطنة نيتساريم بعد ذلك بثمانية عشر عاما مكني من ذلك؛ و بعد أربعة عشر عاما رأينا قنابل الإضاءة في صيف ٢٠١٤ الطويل في غزة.
طالما اختلست صورا لجثث الضحايا و حاولت رسمها. في النهاية وجدت على صفحات احدي المجلات المصرية دراسة بألوان الزيت لجسد ذكوري عاري يتوزر بقطعة قماش. قمت بتكبير الدراسة على نصف فرخ من ورق البريستول و حولت قطعة القماش التي كان يتوزر بها الجسد الى كوفية فلسطينية و أخرجت غصن زيتون من بين أصابع الجسد الممدد و سكبت نقطا من الدم على الأرض. عرضت محاولتي هذه علي مدرس التربية الفنية، الذي اثني على مهاراتي في " التهشير" و توثقت علاقتي به لاحقاً.
*****
لا بأس. نعود إلى موضوعنا اذا كان هناك ثمة موضوع اصلا. حسبت أن قراءاتي المبكرة و تأثري الفائق بما حدث بالمدنيين الذين تركتهم المقاومة في " بطن ليل من حديد" بعد خروجها من بيروت بعد ٨٨ يوما من الحصار يؤهلانتي لكتابة قصة قصيرة على هامش الحدث.
كانت ستي لطيفة تغمرني بحبٍ صافٍ بدون أدنى رتوش أو اضافات. كنت أشعر بحلاوة حبها لي. حلاوة لا تصيبك بالتخمة و لا بالشبع كما يفعل القطر الذي نصبه على القطايف في رمضان. حلاوة غير ملونة كبراغيث الستات، و لا معقودة على حامض الليمون كالحامض على حلو. و صفاء هذا الحب لا يجعله يستوي مع حلاوة الشيكولاته و لكنه ليس كالسكر الصافي بالضبط، أنه حلو كحلاوة السكر الفضي الذي لا شبع منه و لا شفاء.
قبل أن تبلغ الخمسين من العمر أو بعد ذلك بقليل، وجدت ستي لطيفة حالها أرملة بعد أن توفي جدي و انا في الرابعة من العمر. مازال سيدي مجرد خيالات قديمة تلوح في مخيلتي مثل غيوم الصيف. ترك سيدي لستى أمي المتزوجة و بنت صغيرة تكبرني بأربع سنوات و ثلاثة أولاد كان أكبرهم في العشرين من العمر.
كانت ستي تجفف البندورة في الشمس و تخزنها بعد ذلك في مرطبانات زجاجية، و كان تنشف الملوخية فوق السطح و تخزنها بعد ذلك، و كانت لا تنسى أن تنشف البامية و تشبكها في عقد بديع تشتهيه أي عروس, و لم تكن لتنسى أن تزرع الفلفل و الباذنجان في المساحة التي لم يكن عرضها يتجاوز الخمس و سبعين سنتيمترا التى كانت تفصل دار سيدي عن بيت الجيران. كانت تزرع النعنع و الريحان في اصص فخارية، و كانت تربي الحمام فوق سطح الدار، و كانت لا تنسي أن تحتفظ ببعض الدجاجات الملونات اخر المسافة الضيقة التي كانت تفصل دار سيدي عن بيت الجيران.
حسنا ، يبدو أن حلاوة السكر الفضي اجبرتني على الاستطراد، و ستجبرني على التلذذ به ما حييت لاحقا. كنا قد سكنا في بيتنا الذي كان يقابل دار سيدي في نهاية شارع سد. كانت جدتي في بعض الأحيان تطلب مني أن أقوم بنحر دجاجةً أو زغلولاً. كانت جدتي مقتنعة أنني كنت مؤهلا للقيام بهذه المهمة فكنت قد انهيت مرحلة الدراسة الابتدائية و اوغلت قليلا أو كثيرا في المرحلة الإعدادية. لم يكن أمام جدتي بديل عن ذلك، و لم اكن لارفض طلب جدتي و لا لاخذل تعويلها علي.
كانت حلاوة السكر الفضي في حلقي. ستي لطيفة هي التي لقنتني آية الكرسي لاحفظها بعد ذلك، و هي التي علمتني كيف احارب الأرق بقراءة التعويذات مع ايه الكرسي عندما يستعصي علي النوم . كانت ستي تمسك لي الدجاجة أو الزغلول و كنت انحر رقبتها بسكين مطبخ حامية. كنت اتخلص من الطير و ارميه انا و جدتي على الأرض. كان الطير يتشنج بدمه مذبوحا على الارض. كانت ستي تنظر الىٌ مشجعة و مثنية علىَ بعد أن أقوم بمهمتي بنحر الطير. كنت احضر الطير مذبوحا لجدتي بعد أن يتوقف عن التزعفل في التراب، و كانت جدتي تنظفه من الريش و الاحشاء.
كنت احسب أن قراءاتي المبكرة و السطحية و تأثري الشديد بما حدث في صبرا و شاتيلا في ذلك الخريف البعيد كانا يؤهلانني بان أكتب قصة قصيرة. كنت احسب اني استطيع ان احاكي احدي قصص مجموعة "موت سرير رقم ١٢" او "خبز الآخرين" ؛ لكن ستي لطيفة لم تعلمني أبداً كيف اسرد الحكايات. لم تنهي ستي لطيفة اي صفٍ من صفوف المدرسة في البلاد، لكن ستي لطيفة كنت تلقنني دروسا في التاريخ لم افهم معناها الا بعد أن قرأت كتاب "اميل توما" عن " جذور و تطور القضية الفلسطينية" و كتاب "غسان كنفاني" عن ثورة ال ١٩٣٦. كانت تغني لنا اهازيج الافراح التي كانت شائعة في الفترة الي اينع فيها شبابها. كانت تغني "دبرها يا مستر بيل بلكين ع ايديك تنحل" و غير ذلك من الأهازيج التي لم أعد أذكرها.
كنت اود أن أكتب قصة أو حكاية عن تحسسي من نحر الزغلول بينما لم يجد البعض اي تحسس من نحر الآلاف من البشر في صبرا و شاتيلا. كنت اود ان العب على الكلمات و اسمي القصة " دم الزغلول"ملمحا الى دم الزغلول و هو نوع من الحمضيات يزرع في غزة و يميل لونه إلى الاحمرار و طعمه الى الحلاوة. لم يسعفني خيالي الفقير اكثر من ذلك.
طالما حلمت بكتابة هذه القصة. حسبت أن قراءاتي العابرة و تجربتي السطحية تسمح لى بفعل ذلك، لكن ذلك لم يتحقق ابدا. لم تعلمني ستي لطيفة كيف احكي الحكايات. كانت تكتفي بقص الحكايات. لا يمكنني أن أنسى عندما بتنا عند ستي في الليل انا و كل اخوتي قبل أن نسكن في بيتنا المقابل لدار سيدي. كانت امي تتلقى اليود المشع لعلاج إفراط عمل الغدة الدرقية في اسرائيل. لم أكن قد بلغت الثامنة من العمر, إذا لم تخنني الذاكرة. كان على أمي أن تغادر غزة باكرا للوصول إلى المستشفي الإسرائيلي, فتركتنا للمبيت عند ستي . يومها اغرقتنا ستي في الليل و في البرد بالحكايات عن " نص نصيص" و "ستنا الغولة" و "جبينة". أغرقتني ستي لطيفة بالحكايات لكنها لم تدلني ابدا كيف اكتب حكاية "دم الزغلول" ، و ها انا ذا بدلا من أن أكتب حكايتي عن "دم الزغلول" , أتورط في الكتابة عن حب حلو مثل " السكر الفضي" ؛ ها أنا أتورط في السرد بدون أي حكاية و بلا أي معني في زمن غاب فيه المعني عن كل شيء و صرنا أسرى الشياطين الكامنة في التفاصيل الصغيرة , و أسرى الدول العظمي و الدويلات التافهة .