قبل ست سنين كنت امشي في شوارع لوكا المرصوفة بقطع من الحجارة الجبلية. قضيت اكثر من ثمانية ساعات و انا اتجول في لوكا, المدينة الصغيرة المحصنة بسور و بارتفاع قليل عن سطح البحر . نصحني صاحبي انريكو أن ازورها بدلا من فلورنسا. كانت حجته أن فلورنسا كبيرة جدا على نهار واحد اقتنصه من الاسبوعين الذين قضيتهما للتدريب في ايطاليا. لم استجب لنصحيته بعدم زيارة المدينة الكبيرة. رافقت أربعة سودانيين و سودانية في رحلة بالقطار من بيزا الي فلورنسا. قضينا نهارا كاملا في واحدة من أجمل المدن الإيطالية. قضيت الليل في غرفتي في الفندق في بيزا و في اليوم التالي اشتريت تذكرة قطار الى لوكا.
خرجت من محطة قطارات لوكا البسيطة و الموحشة و تسلقت الدرج المؤدي الي المدينة القلعة. لم انتبه سابقا إلى أن تولستوي كان قد بدأ " الحرب و السلام" بالحديث عن حروب لوكا مع مدن أخري. استقبلتني لوكا بالمطر. تشائمت قليلا. وضعت غطاء الرأس المتصل بالرينكوت على رأسي و مشيت. بدأ باعة الروبابيكيا و التحف يحصنون بسطاتهم بشوادر النايلون و يدخلون المقتنيات التى قد تتلف بفعل المطر الى أماكن اكثر امانا تحت عرائش بسطاتهم.
لا بأس، بدأ المطر بالتوقف. عاد سوق الاحد الى سابق حاله. عادت الشمس إلى يومها الربيعي المنعش. عاينت شوارع المدينة و متاجرها. حاناتها و مطاعمها. بيوتها القديمة و كنائسها.توجست من الكلاب. راقبت وجوه السياح و التجار. طالعت أبوابها و شبابيكها. كنت انظر الى الاعلى. إلى السماء الصافية إلا من القليل من بقايا الغيوم. الى بلكونات الطوابق العليا و الشبابيك الفسيحة في مدينة صغيرة لا تزيد طوابقها عن طبقتين أو ثلاث طبقات في احسن الأحوال. كنت ابحث عن الصورة التى طالما بحثت عنها دون جدوى. كنت احلم أن اري اكثر المشاهد الرومانسية التي شاهدتها في حياتي مرة أخرى. كيف لي الا احلم بذلك و انا في لوكا. كيف لي الا احلم بذلك و الصورة التي اشتهي رؤيتها تشبه صور الافلام الإيطالية في السبعينات.
عندما كنت صغيرا كنت اذهب إلى الروضة كما أخبرني اهلي. اذكر ان والدي كان يأخذني الى مكان في شارع خلف المستشفي الانجليزي. خيالي أو ذاكرتي يرشدانني إلى أن المكان كان في الشارع الذي يفصل بين سور المستشفى الانجليزي القبلي و مقابر البلدية. كنت البس زيا غامقا و كنت امسك سبابة يد والدي اليسرى بكل يدي اليمنى. قالوا لى أنني ذهبت إلى روضة حلزون و أن جدي هو الذي كان يأخذني إلى روضة الاتحاد النسائي. لا بأس من كل ذلك.
قضت امي عمرها الوظيفي كمعلمة صف في الصفوف الابتدائية الدنيا في مدارس الانروا.في تلك الايام، كان عاديا أن تُلحق المدرسات أبناءهن كطلاب مستمعين في الصف الأول الابتدائي، و هذا ما فعلته امي مع اغلب اخوتي أو حتى معهم جميعا على ما اعتقد. لكن امي لم تفعل ذلك معي، مع ابنها الأكبر ، بالرغم من أنها اخذتني معها على الأقل مرة واحدة إلى المدرسة التى كانت تعمل فيها في حي الدرج في مدينة غزة. انا واثق انني جلست في الصف الاول كمستمع ليوم واحد على الاقل. كان منهج القراءة ايامها يحكي قصص عادل و سعاد، و عندما التحقت رسميا بالصف الأول تغير منهج القراءة ليحكي حكايات عمر و امل. ما زلت اذكر شكل معلمة الصف الاول في ذلك اليوم. كانت في غاية الرقة و الجمال بشعر جرسون قصير. كانت مثل الفتيات اللواتي كن يظهرن بالابيض و الاسود في الاعلانات التى رايتها لاحقا على صفحات مجلات " المصور " و " اخر ساعة" في الستينات. قد يكون السبب في انني لم استمر في الالتحاق مستمعا بالصف الأول في نفس مدرسة امي هو أنها انتقلت لتعمل في الفترة الثانية بعد الظهر في مدرسة قريبة من بيتنا. لا استطيع ان اجزم بذلك، لكنني اتذكر أن خالي الذي يكبرني بخمس سنين سجلني في الربيع في المدرسة التى كان يدرس فيها. كانت مدرسته تجاور مدرسة امي القريبة و الجديدة التي انتقلت اليها لتعمل فيها بعد الظهر. اذكر انه اقتادني في اليوم الأول من الصف الاول إلى مدرستي الابتدائية للذكور كما كان يقول اسمها. لم يأخذني خالي بعد ذلك إلى المدرسة ، يبدو أنه كان ينتظم في الفترة المسائية في النصف الأول من السنة بينما انتظمت انا في الفترة الصباحية. بعد ذلك اصبحت اسلك طريقي الى المدرسة وحيدا. هذا ما تذكره ذاكرة طفل في سن السادسة من العمر.
كنت اخرج من البيت صباحا و امشي بجوار بيوت جيراننا، أمر من أمام الفرن. استمر بالمشي على الشارع الترابي. استنشق بخار الخبز الطازج و رائحة اليانسون المنبعث من القرشلة التى كان يخبزها رجل طويل بعين مغمضة و أخري سليمة. كانت رائحة زيت قلي الفلافل تنبعث من بسطة في الزاوية الأخرى للجهة المقابلة للدكان التي افتتحت مؤخرا.
لم يكن صاحب الدكان الجديدة قد أطلق لحيته بعد. كان قد جهز دكانه بمطحنة كهربائية معدنية صغيرة لطحن القهوة، و كان يحرص على أن يكون في دكانه انواع مختلفة من المعلبات و اللبن الإسرائيلي و كان احيانا يأتي بصواني النمورة و الحلويات الشرقية من عند ضبان. كان محظوظا لاقتنائه تيليفوناً في دكانه, في وقت لم يكن يقتني التيليفونات الا التجار، الذين كانوا يمتلكون سجلا تجاريا، و كبار الموظفون العموميون و ميسورو الحال و الأعيان. كان التيلفون مصدرا إضافيا لدخل دكانه الافرنجية. و كان التليفون و عمره الشاب يعطيان دكانه أفضلية على الدكانة, التي كان صاحبها الكهل يصنع اللبن الرائب بنفسه و يحمص الفستق ( الفول السوداني) بتحريكه في اسطوانة معدنية كالبرميل . كنت قد رأيت ذات يوم بينما كنا نشتري انا و والدي حاجيات البيت من الدكانة الافرنجية فتاة في منتصف العشرينات من عمرها. كانت قصيرة بشكل ملفت؛ يبدو أنها كانت قزمة ، فلم تكن اطول منى و انا في الصفوف الابتدائية الاولى. كان وجهها مطلي بشكل مبالغ به بالمكياج و كانت تتصابى بشكل ملفت للنظر. طالما شاهدت في الدكانة الافرنجية الخطاط المهذب الذي كان يعمل في الأوقاف و يقوم في مطلع كل شهر قمري بكتابة مواعيد الصلاة على ورقة حجمها حجم نصف ورقة الفوليسكاب. كان والدي و عمي يتفقان و يشهدان أن هذا الخطاط هو افضل من يكتب بخط الرقعة في قطاع غزة.
كنت انعطف يسارا بعد أن أمر بالدكانة الافرنجية. كنت استمر في المشي حتي اصل بدايات اشجار الاكاسيا و الغيلانة التي كانت تنمو تحتها أزهار الحنون. كانت بوابة مدرستنا تواجه هذه الأشجار . مدرسة ذكور الفلاح الابتدائية للاجئين. لم أكن أحب المدرسة بالرغم من درجاتي المرتفعة و تفوقي الموثق و المشهود له ، لكنني لم اكن اكرهها كأغلب الطلاب. تعودت على الطريق الى المدرسة.
في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي، في احدي صباحات ايام الخريف، كانت الطريق الترابية مبللة بالندى أو بمطر ليلي خفيف لم ننتبه له أثناء نومنا. مررت ببيوت الجيران. اقتربت من الفرن الذي كان يخبز الخبز و القرشلة. بحثت عن بخار الخبز و رائحة اليانسون. رفعت رأسي الى السماء. رأيت بلكونة معلقة أو شباكا فسيحا على الطبقة الثانية للفرن او لاحدى البيوت المجاورة. رأيت رجلا مفتول العضلات و الشوارب. كان يلبس فانيلا سوداء تكشف عن صدره و كتفه وعضلات عضده المفتولة. كان بشرته نحاسية و شواربه بلون ملابسه الداخلية ( الفانيلا) العلوية السوداء. نظرت الى الرجل لكني لم أعرفه. يبدو أنه لم يكن من الحارة أو أنه استأجر بيتا أو غرفة لفترة قصيرة. كان يستند بساعديه المتعانقتين على طرف البلكونة أو على طرف شباك الغرفة المعلقة. كانت تستند إلى كتفه و ظهره امرأة في أواخر العشرينات أو في أوائل الثلاثينات من العمر. كان يبدو أنهما في نفس العمر. كانت بشرتها نحاسية أو خمرية مثل بشرته و كان شعرها ينزف بالكحل الذي يوشح عينيها. كانت ترتدي قميص نوم احمر يكشف عن بعض صدرها و كل كتفيها. كنت انظر إليهما و كأني اشاهد كارت بوستال أو صورة متوقفة في فيلم ايطالي بألوان السكوب. نظرت طويلاً ثم واصلت طريقي نحو الدكانة الافرنجية، و انعطفت يسارا تجاه المدرسة.
صرت كل يوم عندما أقترب من الفرن , انظر الى السماء باحثاً عن رائحة الخبز و اليانسون و انتظر أن أشاهد صورة الكارت بوستال مرة ثانية . قضيت طفولتي و انا انتظر أن أرى المشهد و لو لمرة أخرى و أخيرة. انتهت صلاحية طفولتي مبكراً و أنا أبحث عن اللقطة التي تشبه لقطات بطاقات المعايدة. سافرت كثيرا و انا ابحث في بلكونات الطابق الثاني و الثالث عن صورة حبببان بكل ذلك الانسجام و الرومانسية. صرت انظر في الصباح الى شبابيك الغرف المعلقة في المدن البعيدة بحثا عن عاشقين لا يتكلمان. نسيت أن الافران توقفت عن خبز الخبز البيتي البلدي و أن غزة وحدها هي التي تنثر اليانسون على القرشلة بمثل هذا السخاء و كأنه نوع من انواع الفلفل الشطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق