10‏/08‏/2008

باقٍ

سيري ببطءٍ ، يا حياة، لكي أراك‏ بكامل النقصان حولي. كم نسيتك في خضمّك باحثاً عنّي وعنك. وكلّما أدركت سرّاً منك قلت بقسوةٍ: ما أجهلكْ!‏ قلْ للغياب: نقصتني وأنا حضرت ... لأكملكْ!


محمود درويش

05‏/08‏/2008

كوسموبوليتي في غزة: إستطراد

ما أن أنهيت كتابة و ارسال البوست السابق : " كوسموبوليتي في غزة " حتى ذهبت للنوم. لم يكن هنالك مبررا للقلق و لا للأرق, فليلي طويل كالعادة مغموس بقهوة و سجائر و إسترخاء و سرحان و أحلام يقظة و وقت يضيع بلا معنى و كل ذلك يقتل الانتباه في دماغي.لقد اعتدت أن أقول أنني ما أن أضع رأسي على الوسادة حتى أغرق في نوم طويل , أعتدت أن أقول ذلك مضيفا أنني لا اظلم أحدا و لا أفعل أشياء تستحق أن يؤنبني ضميري عليه , لأغيظ زوجتي أو من حولى. ذهبت إلي سريري لأذهب في نومي سريعا. بعد ساعة أو ساعة و نصف , إسيقظت على نفسي و أنا أجهش ببكاء يملأ الحلق مرارة ، ذهبت إلى المراَة ؛ فكانت عيناي حمراواتان كأنهما تعانيان من الرمد. في الحلم " الكابوس" , كانت جدتاي هما بطلتا المشاهد : الأولي فارقت الحياة و أنا في الصف الثاني أو الثالث الإبتدائي " لا أذكر جيدا" و لكن وفاتها مطبوعة في ذاكرتي باليقين فأنا واحد من الأطفال الذين حملوا الشموع و هم يغسلون جسدها قبل تكفينه, و ما زلت أذكر جهاز الغراموفون الذي كان يقتنيه عمي ليصدح بصوت أم كلثوم و فريد و عبد الوهاب و فيروز من إسطوانات سوداء توضع بعناية في مظاريف ورقية بيضاء , يتلو أيات القرأن عند وفاتها في فناء بيتنا الفسيح الذي كانت تتوسطه نخلة عملاقة تمدنا و أصحاب البيت الذي أستأجرناه منهم بالبلح و تحط عليه الوطاويط و تحيط به الغرف السبع الذي تسكن فيها ثلاث أسر في أسرة واحدة؛ أما الثانية فقد فارقت الحياة قبل 4 سنوات بينما كنت في غربة مؤقتة و لم أعرف بوفاتها إلا بالصدفة عبر الهاتف, عندما عرفت بوفاتها خرجت مشيا على الأقدام من شقتي الصغيرة إلى المخزن في المدينة التي كان يفصلها عن عالمنا القديم محيط و قيم و صراع ينهش كل شيء, لأشتري ملابس بسعر التنزيلات التي تنتهي بتسع و تسعين, خرجت من البناية القديمة التي تحتضن شقتي الصغيرة غير سعيد و غير حزين , كأني كنت أستمع إلى موسيقى حزينة تلامس القلب والروح بدون أن تخدشها.

في الحلم " الكابوس" كانت جدتاي حاضرتان : الأولى كما في الصورة الملونة , واضحة المعالم , فارعة الطول , نحيلة كما كنت أراها في أخر عمرها قبل ثلاثين عاما؛ الثانية كما عشنا معها و عاشت لنا بنفس ملامحها و صوتها الخافت , كانت كغيمة بيضاء تحيط بالجسد من كل صوب و حدب بدون أن تلمسه. كانت ظهور جدتاي في الحلم كبزوغ شمس في سماء ملبدة بالغيوم , و كانتا في الحلم تختلطان بذكرى تؤرق الضمير و تثيرانه؛ الأولى تركت الحلم فلم يثرني ذلك , لقد تركت الحياة و أنا صغير و أنا شاهد على ذلك ؛ الثانية كانت تودعني في الحلم فلم أتحمل الفراق الذي مر عليً خبره في الحياة كريح هادئة خفيفة بدرجة حرارة الجسد سريعة تلفح الروح و تذهب بدون أن تحرقها ؛ لم أتحمل فراقها في الحلم / الكابوس فأجهشت في بكاء ملأ الفم بمرارة إحساسي بذنوب قد أكون أرتكبتها أو ألصقت بي.

: :
: :
: :
قد تكون كلمة كوسموبوليتي هي الذنب و هي الجريمة التي ارتكبته قبل الحلم / الكابوس بدقائق أو ساعات . تعرفت على الكلمة أول مرة عندما قرأت المانفيستو قبل أكثر من عشرين عاما , و كانت قرأتي السريعة للأيديولوجيا تسقط على هذه الكلمة بعدا سلبيا على ما أذكر . و أستخدام الكلمة هنا في واقعنا الذي نغوص فيه في الوحل/ المجاري هنا في غزة إلى درجة الغرق قد يوحي بالهروب من الواقع الذي طالما تفاخرت بالتشبث به و الانتماء له.

: :
: :
: :

هل استطيع هنا في غزة تسمية الاستشهاد بالانتحار؟ هل استطيع هنا أن نسمي البلادة باسمها أم أنها الدفاع عن الحياة في واقع تقطع فيه رؤوس كل من يتنحنح؟ هل نستطيع أن نسقط دراسات الغرب عن مجتمعات محددة و واضحة المعالم على مجتمع هلامي الشكل ؟ هل نستطيع أن نسقط قيم الثقافة الكونية على واقعنا المحلي؟

: :
: :
: :
العقل و الفم مليئان بالأسئلة التي تتكاثر كما تتكاثر الأرانب, و العقل عقيم عندما أحتاج الاجابات .








01‏/08‏/2008

كوسموبوليتي في غزة


عندما أحاول أن أعزي نفسي بوجودي في البقعة من الأرض ؛ و عندما أحاول أن أرفض هواجس الرحيل من هذا المكان الذي أنتميت له أربعين عاما بالتمام بحكم الميلاد , و من ثم بحكم االمعاناة و الإنحياز لها , و بحكم الأحلام و السجائر و العرق و الدم ؛ و عندما أتشبث بفكرة : " تشاؤم العقل و تفاؤل الإرادة التي تلازمني منذ عشرين عاما؛ و عندما أختار أن أنحاز لإنسانيتي قبل أي شئ و كل شيء ؛ و عندما أحاول ألا أخوض في وحل غزة و مجاريها , فأن فكرة أن أكون مواطنا عالميا في غزة تداهمني إلى حد الجنون , محاولا التغلب على جنون الواقع الذي ظهرت تجلياته بجنون منقطع النظير عندما إنتصر السيف و البشاعة على كل أمل بالأفضل قبل عام في غزة .
هل لي أن أكون كوسموبوليتينيا في غزة وسط هذا القحط القاتل و الحصار الظالم و البشاعة التي تأبى أن يكون لها نظيرا. أحاول أن أحافظ على قيم ما و ألا أفعل ما يفعل الرومان عندما أكون في روما , و لكن هل أستطيع و غزة و هوائها المغموس بالماء يحاصرني من كل فج و ميل , و هل لي و قيمها الهلامية تلتف حولي من الأمام و الخلف و من فوق و من تحت .

هل لي ؟؟ ليس أمامي سوى ذلك لأعيش فيها و لها غير راكلاً أحلامي أو قاتلا لها بومضة فكرة جريئة أو بقرار متهور . ليس لي إلا أن أحافظ على إنسانيتي وسط هذا الركام من البشاعة.