12‏/06‏/2019

هويناً يمر في الطرقات ,
يحدثنا بدون حكمة أو مجاز.
يمر هوينا حتى لا نفتقده حين يحل الغياب.
هويناً يمر في الطرقات, و لا يخدعه ضوء السراب.
يخاف علينا من بنات أوي, و يتركنا للذئاب.
هويناً يمر في الطرقات؛
يوزع بالتساوى علينا الحكايات,
بالضبط كما كان يوزع حصصنا من المكسرات.
يوزع علينا حبه كما يشاء,
بالضبط كما كان يوزع بعد صلاة الصبح نصوص الدعاء.

بذور لنص أطول

تركتاني أمام طاولة الطعام. ذًهبتا للنوم. أستمر في الحملقة في شاشة اللابتوب الرابض أمامي على سطح الطاولة. التراك يقود الأغانى والموسيقى على الساوند كلاود. الأوراق و الكتب و منفضة السجائر و وصلات اللابتوب و شاحن الجوال تنشر الفوضى على الطاولة. الفوضى تغزو روحي و أفكاري. تبدو أي محاولة لترتيبها فاشلة منذ البداية.
ذهبتا إلى الفراش الدافيء. تركتاني في ملابسي الصوفية و جرابيني. أقاوم برد التشارين وحدي. لقد أصبح جسدي حساساً لهذا البرد, بعد أن كان سابقاً يتقبله بدون أدني مضض.
تنطفئ الإنارة التي يزودنا بها مولد الشركة الصغيرة الخاصة عند حلول منتصف الليل. يبدد شاحن الليدات الكهربائي , الموضوع في الممر المؤدي إلى غرف النوم, شيئاً من ظلمة الليل. الصقيع كما هو. أسحب سلك الشاحن من إبريز الكهرباء. أحمل الشاحن الكهربائي . أدخل غرفة صغيرتي. أطمئن عليها. أتأكد أن الحرامات تدثر جسدها. أتأكد أن زوجتي تغط في النوم. أضع الشاحن الكهربائي على الطاولة. يضيف الشاحن إلى الفوضى عنصراً جديداً.
أضغط على مفتاح من مفاتيح الكي بورد. أيقظ اللابتوب من سباته. تبقى له ساعتين و نصف من الزمن الإحتياطي للعمل على البطارية. أضع اللايكات على الفيس بوك. أنقر على الشاشة لتقودني الروابط إلى قراءات لم اكن أخطط لها و لا أتوقعها.تراك الساوند كلاود يأخذني من الموسيقى إلى أشعار شعراء مجهولين. أستمع بإعجاب. أعيش في عالمي الخاص خارج المدينة التي تتوشح بالظلام. يلسع البرد قدماي. أمص الفلتر. أسحب نفساً عميقاً. أبتلع دخان السيجارة. ألاحظ أن شفتي العليا أصابها القشف بسبب البرد. ها أنا مثل طفلتي الصغيرة أعاني من تقشف الشفتين بسبب البرد. أداعب شفتى العليا بأسناني العليا.
يمضي الوقت. أتذكر مديري في العمل. يتصابى. يوزع النكات الجنسية التافهة في طريقه. لا يبالي بأي شئ إلا بأن يغادرالعمل و هو على خير ما يرام. إرتطمت بإسم صاحبي على الفيس بوك. لقد أنشأ صفحة شخصية على الفيس بوك و عرف نفسه على أساس أنه " بابليك فيجار" شخصية عامة. أصيبت بالغيظ منه و من الحالة العامة. حسبته لسنواتٍ صديقاً, فإذا به يسرقني في وضح النهار. وضع إسمه على الورقة التي أنفقت عليها أكثر من شهر كامل من جهدي و ها هو الأن يتأستذ علىَ. ماذا كان على أن أتوقع من قائد سياسي يظهر بين الحين و الأخر على الفضائيات و بات إسمه من المرشحين لعضوية المجلس الوطني؟
يستمر تراك الساوند كلاود بدون أي توقف. لا أهتم به. تخطر في بالى هواجس عن الهجرة إلى الشمال. تبدو الهجرة في مثل هكذا عمر كنوع من الجنون. مثل الإنتحار في أرذل العمر أو كالطلاق بعد ثلاثين عاماً من الزواج. تظهر إشارة على الشاشة تحذر بأنه تبقى 10% من شحنة بطارية اللابتوب. تروق لى الأغنية التي التي يبثها الساوند كلاود. أتجاهل الإشارة و أستمر في الإستماع إلى الأغنية و تصفح الإنترنت. أشعل سيجارة جديدة. تظهر إشارة جديدة بأن شحنة بطارية اللابتوب لم يتبقى منها سوى 7%. أُطبق شاشة اللابتوب على لوحة المفاتيح.
يذهب اللابتوب إلى النوم. أبقيه يقظاً كجندي على التخوم بدون أي إغلاق. أهم إلى الفراش. أتفقد صغيرتي و غطائها. أدخل غرفة نومنا. زوجتى غارقة في النوم. أسحب الغطاء قليلاً عنها. أضعه على جسدي. أضع رأسي على الوسادة. تغط زوجتي في نومها. أشعر بالأرق. أغفو. أرى مديري في العمل و صاحبي السياسي اللص في المنام. أستيقظ و أغفو. أهيم فوق سحب من الأحلام.
:234:
يرن موبايل زوجتي في الساعة السادسة و الربع صباحاً. تستيقظ من نومها. تنهض من فراشها. أخذ غفوة. يرن موبايلي بعد ربع ساعة. أضغط على ( سنوز) . أخذ غفوة إضافية . يرن موباليلي مرة أخرى بعد عشرة دقائق. أضغط على سنوز مرة ثانية . يرن منبه الموبايل مرة ثالثة. أجمع قواى الخائرة و بقايا النوم. أنهض من السرير. أشعر أنني كنت ميتاً. أتمنى أن أبقى ميتاً في فراشي. كثيراً ما أشعر بذلك , لكنني في كل مرة أتذكر أنني ما زلت حيا, و أنهض. أتذكر شعوري المزمن بالموت , و أنهض.
أنظر إلى زوجتي في غرفة نوم الصغيرة. مازالت تيقظ طفلتنا. أرفع صوتي عالياً و أطالب صغيرتنا بالنهوض من الفراش. أشم رائحة القهوة. أشعر بحاجة إلى سيجارة. أتوجه إلى التواليت. ألاحظ أن زوجتي إستغلت قدوم الكهرباء التي تزودنا بها شركة التوزيع الحكومية الساعة السادسة صباحاً حسب جدول الثماني ساعات و أشعلت قابس سخان الماء الكهربائي. المياه دافئة في الصنابير. أحلق ذقني. أضع خيطاً من معجون الأسنان على الفرشاة. أخذ الفرشاة معي. أضبط تدفق الماء الساخنة و الباردة من الدوش. أضع رأسي تحت الدوش. أخذ حماماً سريعاً. أفرش أسناني بالفرشاة و رأسي تحت الماء الفاتر. الدوش و معجون الأسنان بطعم النعناع يمنحاني نوعا من الانتعاش. أرتدي ملابسي الداخلية. أهرول لغرفة النوم. أغرق إبطي بمزيل العرق. أرتدي ملابسي. أنظر إلى وجهي في المرآة. ألاحظ شواربي الكثة.أراقب الأبيض الذي يغزو الشعر. تاج رمادي يتوج رأسي. أنظر إلى وجهي الممتقع.إلى الهالتين الداكنتين حول عينيي. الى كل هذا الحزن . كنت غالباً ما أشعر بالكآبة . قد أقلمت نفسي على مستوى من الحزن يمكنني من مواصلة الحياة. أنظر إلي المرآة. أعجز عن الابتسام.أحدث نفسي أنني لست الوحيد العاجز عن الإبتسام, بل أن كل من يحيا هنا لا يستطيع الإبتسام بصدق ؛ البعض نسي كيف تكون الإبتسامة؛ الأخرون يبتسمون في انتظار مقابل, و يشتمون من يبتسمون في وجوههم ما أن يعطونهم ظهورهم.
أصفف شعري سريعاً. أرش الكولونيا على ذقني الحليقة. أستمتع باللسعة التي تثيرها الكولونيا في وجهي . أقبل طفلتي و هي ترتدي ملابسها. أبتلع كأس القهوة الفاترة بسرعة كأني أشرب كوباً من الماء. أضع اللابتوب في حقيبته. أنقد طفلتي مصروفها اليومي. أعانقها سريعاً بهدوء. لن أرافقها هذا الصباح إلى السيارة التي تقلها إلى مدرستها الخاصة. على أن أركض إلى عملى. أخرج من الشقة. يلفحني برد التشارين.
البرد. يداي مثلجتان. أداعب شفتي العليا بأسناني. أحاول أن أخدش القشف. تقف لي سيارة أجرة. أفاوض السائق أن يقلني إلى مكان عملي مباشرة بدون التوقف في سوق المخيم القريب. سأضطر للإنتظار طويلاً في سوق المخيم القريب حتى أستطيع ان أستقل سيارة أجرة أخرى إلى مكان عملي. يرفض السائق أن يقلني إلى مكان عملي مباشرة . أنصاع للأمر .
أجلس في المقعد الأمامي للسيارة. الشرطة تتحرز على بعض التلاميذ . أحسب أن مظاهرات قد إندلعت في المدارس إحتجاجاً على شركة توزيع و توليد الكهرباء الحكومية. يصححني سائق سيارة الأجرة بأن الشرطة تحرزت على التلاميذ لهروبهم من المدرسة الإعدادية. العساكر يضعون التلاميذ في في بوكس سيارتهم. نقترب من الوادي الجاف. رائحة كريهة تجتاح أنفي. نجتاز الجسر البسيط الذي قصفته الطائرات في الحرب الأخيرة و أعادت بناءه البرازيل. تتجاوز سيارة الشرطة سيارة الأجرة التي أستقلها. أشاهد الأطفال بحقائبهم المدرسية على أكتافهم و العساكر برشاشاتهم الموجهة إلى الأرض يجلسون متجاورين في بوكس السيارة.
تنتهي الفرجة. أشعر بالبرد, تستفزني شفتاي الخشنتان. أغلق نافذة المقعد الأمامي لسيارة الأجرة. نصل السوق. مركز المخيم. أخرج من السيارة.
يتكرر المشهد اليومي. العمارات الرمادية. الفوضى. يافطات المكاتب, المختبرات, و عيادات الأطباء المسائية تزين عمارات باذخة إلى حدٍ ما. بسطات الخضار و الفواكه؛ عربات تبيع المشروبات الساخنة؛ أكشاك صغيرة لبيع السجائر؛ سيارات الأجرة المصطفة حتى تملأ حمولتها؛ الركاب الذين ينتظرون واقفين مؤشرين لأي سيارة تقلهم إلى وجهتهم بدون الإضطرار للإنتظار ريثما تملأ سيارات الأجرة حمولتها؛ رجال الشرطة الذين يتربصون بالسائقين.
أمشي قليلاً. أتجاهل سيارات الأجرة المصطفة. أتجاوز رجال الشرطة. أقف مؤشراَ لأي سيارة تقلني إلى مكان عملي. روث الحمير ينتشر على الأسفلت. حاويات النفايات موزعة علي الرصيف الذي يقسم الشارع إلى إتجاهين متعاكسين. رائحة النفايات و الروث تصيبني بالغثيان. تقف لى سيارة. أخبر السائق عن وجهتي. إركب. أستقل سيارة السوبارو القديمة ألى مكان عملي. تتحرك السيارة كسلحفاة كئيبة تفكر بالإنتحار.

قرشلة


قبل ست سنين كنت امشي في شوارع لوكا المرصوفة بقطع من الحجارة الجبلية. قضيت اكثر من ثمانية ساعات و انا اتجول في لوكا, المدينة الصغيرة المحصنة بسور و بارتفاع قليل عن سطح البحر . نصحني صاحبي انريكو أن ازورها بدلا من فلورنسا. كانت حجته أن فلورنسا كبيرة جدا على نهار واحد اقتنصه من الاسبوعين الذين قضيتهما للتدريب في ايطاليا. لم استجب لنصحيته بعدم زيارة المدينة الكبيرة. رافقت أربعة سودانيين و سودانية في رحلة بالقطار من بيزا الي فلورنسا. قضينا نهارا كاملا في واحدة من أجمل المدن الإيطالية. قضيت الليل في غرفتي في الفندق في بيزا و في اليوم التالي اشتريت تذكرة قطار الى لوكا.
خرجت من محطة قطارات لوكا البسيطة و الموحشة و تسلقت الدرج المؤدي الي المدينة القلعة. لم انتبه سابقا إلى أن تولستوي كان قد بدأ " الحرب و السلام" بالحديث عن حروب لوكا مع مدن أخري. استقبلتني لوكا بالمطر. تشائمت قليلا. وضعت غطاء الرأس المتصل بالرينكوت على رأسي و مشيت. بدأ باعة الروبابيكيا و التحف يحصنون بسطاتهم بشوادر النايلون و يدخلون المقتنيات التى قد تتلف بفعل المطر الى أماكن اكثر امانا تحت عرائش بسطاتهم.
لا بأس، بدأ المطر بالتوقف. عاد سوق الاحد الى سابق حاله. عادت الشمس إلى يومها الربيعي المنعش. عاينت شوارع المدينة و متاجرها. حاناتها و مطاعمها. بيوتها القديمة و كنائسها.توجست من الكلاب. راقبت وجوه السياح و التجار. طالعت أبوابها و شبابيكها. كنت انظر الى الاعلى. إلى السماء الصافية إلا من القليل من بقايا الغيوم. الى بلكونات الطوابق العليا و الشبابيك الفسيحة في مدينة صغيرة لا تزيد طوابقها عن طبقتين أو ثلاث طبقات في احسن الأحوال. كنت ابحث عن الصورة التى طالما بحثت عنها دون جدوى. كنت احلم أن اري اكثر المشاهد الرومانسية التي شاهدتها في حياتي مرة أخرى. كيف لي الا احلم بذلك و انا في لوكا. كيف لي الا احلم بذلك و الصورة التي اشتهي رؤيتها تشبه صور الافلام الإيطالية في السبعينات.
عندما كنت صغيرا كنت اذهب إلى الروضة كما أخبرني اهلي. اذكر ان والدي كان يأخذني الى مكان في شارع خلف المستشفي الانجليزي. خيالي أو ذاكرتي يرشدانني إلى أن المكان كان في الشارع الذي يفصل بين سور المستشفى الانجليزي القبلي و مقابر البلدية. كنت البس زيا غامقا و كنت امسك سبابة يد والدي اليسرى بكل يدي اليمنى. قالوا لى أنني ذهبت إلى روضة حلزون و أن جدي هو الذي كان يأخذني إلى روضة الاتحاد النسائي. لا بأس من كل ذلك.
قضت امي عمرها الوظيفي كمعلمة صف في الصفوف الابتدائية الدنيا في مدارس الانروا.في تلك الايام، كان عاديا أن تُلحق المدرسات أبناءهن كطلاب مستمعين في الصف الأول الابتدائي، و هذا ما فعلته امي مع اغلب اخوتي أو حتى معهم جميعا على ما اعتقد. لكن امي لم تفعل ذلك معي، مع ابنها الأكبر ، بالرغم من أنها اخذتني معها على الأقل مرة واحدة إلى المدرسة التى كانت تعمل فيها في حي الدرج في مدينة غزة. انا واثق انني جلست في الصف الاول كمستمع ليوم واحد على الاقل. كان منهج القراءة ايامها يحكي قصص عادل و سعاد، و عندما التحقت رسميا بالصف الأول تغير منهج القراءة ليحكي حكايات عمر و امل. ما زلت اذكر شكل معلمة الصف الاول في ذلك اليوم. كانت في غاية الرقة و الجمال بشعر جرسون قصير. كانت مثل الفتيات اللواتي كن يظهرن بالابيض و الاسود في الاعلانات التى رايتها لاحقا على صفحات مجلات " المصور " و " اخر ساعة" في الستينات. قد يكون السبب في انني لم استمر في الالتحاق مستمعا بالصف الأول في نفس مدرسة امي هو أنها انتقلت لتعمل في الفترة الثانية بعد الظهر في مدرسة قريبة من بيتنا. لا استطيع ان اجزم بذلك، لكنني اتذكر أن خالي الذي يكبرني بخمس سنين سجلني في الربيع في المدرسة التى كان يدرس فيها. كانت مدرسته تجاور مدرسة امي القريبة و الجديدة التي انتقلت اليها لتعمل فيها بعد الظهر. اذكر انه اقتادني في اليوم الأول من الصف الاول إلى مدرستي الابتدائية للذكور كما كان يقول اسمها. لم يأخذني خالي بعد ذلك إلى المدرسة ، يبدو أنه كان ينتظم في الفترة المسائية في النصف الأول من السنة بينما انتظمت انا في الفترة الصباحية. بعد ذلك اصبحت اسلك طريقي الى المدرسة وحيدا. هذا ما تذكره ذاكرة طفل في سن السادسة من العمر.
كنت اخرج من البيت صباحا و امشي بجوار بيوت جيراننا، أمر من أمام الفرن. استمر بالمشي على الشارع الترابي. استنشق بخار الخبز الطازج و رائحة اليانسون المنبعث من القرشلة التى كان يخبزها رجل طويل بعين مغمضة و أخري سليمة. كانت رائحة زيت قلي الفلافل تنبعث من بسطة في الزاوية الأخرى للجهة المقابلة للدكان التي افتتحت مؤخرا.
لم يكن صاحب الدكان الجديدة قد أطلق لحيته بعد. كان قد جهز دكانه بمطحنة كهربائية معدنية صغيرة لطحن القهوة، و كان يحرص على أن يكون في دكانه انواع مختلفة من المعلبات و اللبن الإسرائيلي و كان احيانا يأتي بصواني النمورة و الحلويات الشرقية من عند ضبان. كان محظوظا لاقتنائه تيليفوناً في دكانه, في وقت لم يكن يقتني التيليفونات الا التجار، الذين كانوا يمتلكون سجلا تجاريا، و كبار الموظفون العموميون و ميسورو الحال و الأعيان. كان التيلفون مصدرا إضافيا لدخل دكانه الافرنجية. و كان التليفون و عمره الشاب يعطيان دكانه أفضلية على الدكانة, التي كان صاحبها الكهل يصنع اللبن الرائب بنفسه و يحمص الفستق ( الفول السوداني) بتحريكه في اسطوانة معدنية كالبرميل . كنت قد رأيت ذات يوم بينما كنا نشتري انا و والدي حاجيات البيت من الدكانة الافرنجية فتاة في منتصف العشرينات من عمرها. كانت قصيرة بشكل ملفت؛ يبدو أنها كانت قزمة ، فلم تكن اطول منى و انا في الصفوف الابتدائية الاولى. كان وجهها مطلي بشكل مبالغ به بالمكياج و كانت تتصابى بشكل ملفت للنظر. طالما شاهدت في الدكانة الافرنجية الخطاط المهذب الذي كان يعمل في الأوقاف و يقوم في مطلع كل شهر قمري بكتابة مواعيد الصلاة على ورقة حجمها حجم نصف ورقة الفوليسكاب. كان والدي و عمي يتفقان و يشهدان أن هذا الخطاط هو افضل من يكتب بخط الرقعة في قطاع غزة.
كنت انعطف يسارا بعد أن أمر بالدكانة الافرنجية. كنت استمر في المشي حتي اصل بدايات اشجار الاكاسيا و الغيلانة التي كانت تنمو تحتها أزهار الحنون. كانت بوابة مدرستنا تواجه هذه الأشجار . مدرسة ذكور الفلاح الابتدائية للاجئين. لم أكن أحب المدرسة بالرغم من درجاتي المرتفعة و تفوقي الموثق و المشهود له ، لكنني لم اكن اكرهها كأغلب الطلاب. تعودت على الطريق الى المدرسة.
في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي، في احدي صباحات ايام الخريف، كانت الطريق الترابية مبللة بالندى أو بمطر ليلي خفيف لم ننتبه له أثناء نومنا. مررت ببيوت الجيران. اقتربت من الفرن الذي كان يخبز الخبز و القرشلة. بحثت عن بخار الخبز و رائحة اليانسون. رفعت رأسي الى السماء. رأيت بلكونة معلقة أو شباكا فسيحا على الطبقة الثانية للفرن او لاحدى البيوت المجاورة. رأيت رجلا مفتول العضلات و الشوارب. كان يلبس فانيلا سوداء تكشف عن صدره و كتفه وعضلات عضده المفتولة. كان بشرته نحاسية و شواربه بلون ملابسه الداخلية ( الفانيلا) العلوية السوداء. نظرت الى الرجل لكني لم أعرفه. يبدو أنه لم يكن من الحارة أو أنه استأجر بيتا أو غرفة لفترة قصيرة. كان يستند بساعديه المتعانقتين على طرف البلكونة أو على طرف شباك الغرفة المعلقة. كانت تستند إلى كتفه و ظهره امرأة في أواخر العشرينات أو في أوائل الثلاثينات من العمر. كان يبدو أنهما في نفس العمر. كانت بشرتها نحاسية أو خمرية مثل بشرته و كان شعرها ينزف بالكحل الذي يوشح عينيها. كانت ترتدي قميص نوم احمر يكشف عن بعض صدرها و كل كتفيها. كنت انظر إليهما و كأني اشاهد كارت بوستال أو صورة متوقفة في فيلم ايطالي بألوان السكوب. نظرت طويلاً ثم واصلت طريقي نحو الدكانة الافرنجية، و انعطفت يسارا تجاه المدرسة.
صرت كل يوم عندما أقترب من الفرن , انظر الى السماء باحثاً عن رائحة الخبز و اليانسون و انتظر أن أشاهد صورة الكارت بوستال مرة ثانية . قضيت طفولتي و انا انتظر أن أرى المشهد و لو لمرة أخرى و أخيرة. انتهت صلاحية طفولتي مبكراً و أنا أبحث عن اللقطة التي تشبه لقطات بطاقات المعايدة. سافرت كثيرا و انا ابحث في بلكونات الطابق الثاني و الثالث عن صورة حبببان بكل ذلك الانسجام و الرومانسية. صرت انظر في الصباح الى شبابيك الغرف المعلقة في المدن البعيدة بحثا عن عاشقين لا يتكلمان. نسيت أن الافران توقفت عن خبز الخبز البيتي البلدي و أن غزة وحدها هي التي تنثر اليانسون على القرشلة بمثل هذا السخاء و كأنه نوع من انواع الفلفل الشطة.

من " دم الزغلول " إلى " السكر الفضي"


في ذلك العمر ، او قبله قليلا، كنت احسب أن قراءة بضعة كتب و أن المثابرة على المطالعة في سن مبكرة كانا يؤهلاناني للكتابة. كانا يؤهلاناني لكتابة قصة قصيرة مثلا, و كنت احسب أن قريحة مفترضة و حصيلة معقولة من المفردات بنفس النهايات و القافية و جرس موسيقي كانوا يؤهلنوني لكتابة الشعر بالرغم من عدم المامي ببحوره و بمحيطاته.
في سن العاشرة أنقذني والدي من ورطة قراءة كتابٍ لمؤلف بشوارب طويلة مثل شوارب ابو عنتر و ببنطلون شارلستون ينتهي بفتحة عريضة و بسوالف تسترسل حتى الخدين كالتي كان يمتطيها اغلب شباب النصف الأخير من سبعينيات القرن العشرين. كنت قد بدأت في قراءة كتابا صغيرا لا اذكر بالضبط شكل غلافه لكنني اذكر عنوانه جيداً " الصراع السياسي في الوطن العربي". كان الكتاب و مؤلفه يتحفانني بمصطلحات لم اسمع عنها من قبل من الانتلجنتسيا حتى الكومبردوار , و من البرجوازية حتي الاوليغارشية , و من البترودولارات حتى العسكرتاريا. كان الكتاب تحفة بالنسبة لي فلقد اثث قاموسي بمفردات غريبة. لم يكن متاحا لي آنذاك وسيلة لمعرفة معاني هذه المفردات سوى التخمين و الاستنباط، و هما خاضعان بدون أدنى شك للكثير من هامش الخطأ؛ لم يكن الدعس على غوغول متاحا في تلك الأيام و لم تتيسر لي إنسكلوبيديا باللغة العربية أنذاك؛ لذا كنت الوذ بوالدي ليفسر لي معاني المفردات الأعجمية. فكان والدي يجيبني احيانا بثقة و حماس, و احيانا أخرى بنوع من التردد، لكنه كان في كل الأحيان يمنحني ابتسامة مشفقة على حالي .
كان كتابا " حامضا" امدني بمفردات لكنه لم يوجهني الى طريق. في نفس الوقت تقريبا كنت أقرأ في المسجد كتيبا بسيطا و نحيلا عنوانه " السرطان الاحمر" . كان الكتيب خاليا من المفردات لكنه وجهني الي الطريق المعاكس تماما لما اراده صاحب الكتاب , الذي لم يكن إلا " عبد الله عزام" الذي خرج من " احراش جرش" الى " تورابورة" . ابعد والدي عني كتاب " عادل سمارة" المثخن بالجمل الثورية و المفردات " الحامضة" ، و اهداني سلسلة ملونة من الكتب المجلدة جيدا التي أصدرتها دار العلم للملايين . (ٱه من الملايين في زمن الاحاد و العشرات و النكرات). كانت السلسلة هي عشرين كتابا عن ثلة من المشاهير من ماري كوري حتى غاندي و من هانيبعل حتى زنوبيا. و ألحق والدي هذه السلسلة بكتاب صغير على غلافة صورة لغسان كنفاني و مكتوب عليه " اطفال غسان كنفاني" و بمجموعة قصصية لمحمود شقير معنونة بالولد الفلسطيني و قصص للصغار احسبها للشاعر على الخليلي بعنوان " عايش تلين له الصخور".
لم تفلح محاولات والدي في ثني عن تلصصي على كتبه.كنت أطالع ديون " لا " لنزار قباني , و استله معي الى المدرسة الابتدائية. وصمني هذا الديوان منذ الصغر زورا و بهتانا لسبب ما, أو على الأصح لقصيدة ما , بصفة حزبية و إيديولوجية لم تكن من صفاتي في ذلك العمر. كنت أقرأ في ديوان " سنى القحط يا قلبي " لشاعرة اختفت كان اسمها ليلي علوش. كنت اصدح بصوتي بقصيدة من ديوان رسم على غلافه المسيح مصلوبا و موزرا بكوفية فلسطينية،: فلسطينية العينين و الكفين و الوشم. كان ديوان عاشق من فلسطين لمحمود درويش. كنت أقرأ من ديوان " قرآن الموت و الياسمين " لسميح القاسم و أختلس النظر لكلمات بذيئة كتبها مظفر النواب في ديوانه " وتريات ليلية" . كنت التهم كل شيء. أقرأ " ام سعد" و "موت سرير رقم ١٢" و اغني "ديوان الحماسة" و أطلع على " ميرامار" و كتب لجورجي زيدان .
كنت اسابق الزمن في الصف لأقرأ الكتب الصغيرة التي كان يعيرني إياها أولاد الصف . كنت اسند كتبا صغيرة , أكبر قليلا من حجم كف اليد, الى رجلى تحت البنك, و أقرأ خلسة الغاز " تختخ" و "نوسة" و بقية " المغامرين الخمسة", و الشياطين الإثني عشر , و مختصرات مسرحيات شكسبير و روايات تشارلز ديكينز المترجمة. كنت أقرأ بحذر و اقنع مدرس الفصل أنني اتابع شرحه. كنت احسد زملائي على أن يكون لك اخ او اخت يكبرك و تكبرك بسنين كثيرة تؤهله أو تؤهلها أن يملك أو تمتلك ثروة من الكتب. كنت احسدهم و استعير كتبهم لسويعات .
يبدو أن نرجسيتي قد اقنعتني بانني قادر على كتابة قصة قصيرة . الجلوس أمام المكتب و قراءة و تلخيص كتاب اميل توما الصغير و لكن السميك " جذور و تطور القضية الفلسطينية" خلال ذلك الصيف منحاني ثقة بنفسي. متابعة ما كان يحدث في الأوزاعي و خلدة و المتحف و الفاكهاني طوال الصيف جعلتني أتصور أن ذلك منحني لغة تقريرية تجاري لغة " عادل مالك " الذي كان يحاول تقييم الموقف على أثير راد مونتي كارلو.
****
كان مذيع التلفزيون الاردني يطلب من المشاهدين ابعاد الاطفال و اصحاب القلوب الضعيفة و الاحاسيس الرهيفة عن شاشات التلفزيون. كان الذباب يحوم حول التلفزيون . كان والدي يتصفح نسخا مجانية بالألوان من مجلات التايم و النيوزويك. كان والدي يقرأ من المجلات الملونة و يترجم لي من الانجليزية أن البلدوزر كان يراقب بمنظاره ما يحدث في المخيم و في حي فقراء العاصمة من عمارة عالية؛ أن إيلي حبيقة كان يقود جيشا من السكارى و المأفونين المسلحين بالبلطات و سكاكين المطبخ و الأسلحة النارية الخفيفة ؛ و أن قنابل الإنارة كانت قد حولت ليل ايلول الى نهار هندي. لم اكن قد شاهدت قنابل الإنارة آنذاك ، لكن سكني بمحاذاة مستوطنة نيتساريم بعد ذلك بثمانية عشر عاما مكني من ذلك؛ و بعد أربعة عشر عاما رأينا قنابل الإضاءة في صيف ٢٠١٤ الطويل في غزة.
طالما اختلست صورا لجثث الضحايا و حاولت رسمها. في النهاية وجدت على صفحات احدي المجلات المصرية دراسة بألوان الزيت لجسد ذكوري عاري يتوزر بقطعة قماش. قمت بتكبير الدراسة على نصف فرخ من ورق البريستول و حولت قطعة القماش التي كان يتوزر بها الجسد الى كوفية فلسطينية و أخرجت غصن زيتون من بين أصابع الجسد الممدد و سكبت نقطا من الدم على الأرض. عرضت محاولتي هذه علي مدرس التربية الفنية، الذي اثني على مهاراتي في " التهشير" و توثقت علاقتي به لاحقاً.
*****
لا بأس. نعود إلى موضوعنا اذا كان هناك ثمة موضوع اصلا. حسبت أن قراءاتي المبكرة و تأثري الفائق بما حدث بالمدنيين الذين تركتهم المقاومة في " بطن ليل من حديد" بعد خروجها من بيروت بعد ٨٨ يوما من الحصار يؤهلانتي لكتابة قصة قصيرة على هامش الحدث.
كانت ستي لطيفة تغمرني بحبٍ صافٍ بدون أدنى رتوش أو اضافات. كنت أشعر بحلاوة حبها لي. حلاوة لا تصيبك بالتخمة و لا بالشبع كما يفعل القطر الذي نصبه على القطايف في رمضان. حلاوة غير ملونة كبراغيث الستات، و لا معقودة على حامض الليمون كالحامض على حلو. و صفاء هذا الحب لا يجعله يستوي مع حلاوة الشيكولاته و لكنه ليس كالسكر الصافي بالضبط، أنه حلو كحلاوة السكر الفضي الذي لا شبع منه و لا شفاء.
قبل أن تبلغ الخمسين من العمر أو بعد ذلك بقليل، وجدت ستي لطيفة حالها أرملة بعد أن توفي جدي و انا في الرابعة من العمر. مازال سيدي مجرد خيالات قديمة تلوح في مخيلتي مثل غيوم الصيف. ترك سيدي لستى أمي المتزوجة و بنت صغيرة تكبرني بأربع سنوات و ثلاثة أولاد كان أكبرهم في العشرين من العمر.
كانت ستي تجفف البندورة في الشمس و تخزنها بعد ذلك في مرطبانات زجاجية، و كان تنشف الملوخية فوق السطح و تخزنها بعد ذلك، و كانت لا تنسى أن تنشف البامية و تشبكها في عقد بديع تشتهيه أي عروس, و لم تكن لتنسى أن تزرع الفلفل و الباذنجان في المساحة التي لم يكن عرضها يتجاوز الخمس و سبعين سنتيمترا التى كانت تفصل دار سيدي عن بيت الجيران. كانت تزرع النعنع و الريحان في اصص فخارية، و كانت تربي الحمام فوق سطح الدار، و كانت لا تنسي أن تحتفظ ببعض الدجاجات الملونات اخر المسافة الضيقة التي كانت تفصل دار سيدي عن بيت الجيران.
حسنا ، يبدو أن حلاوة السكر الفضي اجبرتني على الاستطراد، و ستجبرني على التلذذ به ما حييت لاحقا. كنا قد سكنا في بيتنا الذي كان يقابل دار سيدي في نهاية شارع سد. كانت جدتي في بعض الأحيان تطلب مني أن أقوم بنحر دجاجةً أو زغلولاً. كانت جدتي مقتنعة أنني كنت مؤهلا للقيام بهذه المهمة فكنت قد انهيت مرحلة الدراسة الابتدائية و اوغلت قليلا أو كثيرا في المرحلة الإعدادية. لم يكن أمام جدتي بديل عن ذلك، و لم اكن لارفض طلب جدتي و لا لاخذل تعويلها علي.
كانت حلاوة السكر الفضي في حلقي. ستي لطيفة هي التي لقنتني آية الكرسي لاحفظها بعد ذلك، و هي التي علمتني كيف احارب الأرق بقراءة التعويذات مع ايه الكرسي عندما يستعصي علي النوم . كانت ستي تمسك لي الدجاجة أو الزغلول و كنت انحر رقبتها بسكين مطبخ حامية. كنت اتخلص من الطير و ارميه انا و جدتي على الأرض. كان الطير يتشنج بدمه مذبوحا على الارض. كانت ستي تنظر الىٌ مشجعة و مثنية علىَ بعد أن أقوم بمهمتي بنحر الطير. كنت احضر الطير مذبوحا لجدتي بعد أن يتوقف عن التزعفل في التراب، و كانت جدتي تنظفه من الريش و الاحشاء.
كنت احسب أن قراءاتي المبكرة و السطحية و تأثري الشديد بما حدث في صبرا و شاتيلا في ذلك الخريف البعيد كانا يؤهلانني بان أكتب قصة قصيرة. كنت احسب اني استطيع ان احاكي احدي قصص مجموعة "موت سرير رقم ١٢" او "خبز الآخرين" ؛ لكن ستي لطيفة لم تعلمني أبداً كيف اسرد الحكايات. لم تنهي ستي لطيفة اي صفٍ من صفوف المدرسة في البلاد، لكن ستي لطيفة كنت تلقنني دروسا في التاريخ لم افهم معناها الا بعد أن قرأت كتاب "اميل توما" عن " جذور و تطور القضية الفلسطينية" و كتاب "غسان كنفاني" عن ثورة ال ١٩٣٦. كانت تغني لنا اهازيج الافراح التي كانت شائعة في الفترة الي اينع فيها شبابها. كانت تغني "دبرها يا مستر بيل بلكين ع ايديك تنحل" و غير ذلك من الأهازيج التي لم أعد أذكرها.
كنت اود أن أكتب قصة أو حكاية عن تحسسي من نحر الزغلول بينما لم يجد البعض اي تحسس من نحر الآلاف من البشر في صبرا و شاتيلا. كنت اود ان العب على الكلمات و اسمي القصة " دم الزغلول"ملمحا الى دم الزغلول و هو نوع من الحمضيات يزرع في غزة و يميل لونه إلى الاحمرار و طعمه الى الحلاوة. لم يسعفني خيالي الفقير اكثر من ذلك.
طالما حلمت بكتابة هذه القصة. حسبت أن قراءاتي العابرة و تجربتي السطحية تسمح لى بفعل ذلك، لكن ذلك لم يتحقق ابدا. لم تعلمني ستي لطيفة كيف احكي الحكايات. كانت تكتفي بقص الحكايات. لا يمكنني أن أنسى عندما بتنا عند ستي في الليل انا و كل اخوتي قبل أن نسكن في بيتنا المقابل لدار سيدي. كانت امي تتلقى اليود المشع لعلاج إفراط عمل الغدة الدرقية في اسرائيل. لم أكن قد بلغت الثامنة من العمر, إذا لم تخنني الذاكرة. كان على أمي أن تغادر غزة باكرا للوصول إلى المستشفي الإسرائيلي, فتركتنا للمبيت عند ستي . يومها اغرقتنا ستي في الليل و في البرد بالحكايات عن " نص نصيص" و "ستنا الغولة" و "جبينة". أغرقتني ستي لطيفة بالحكايات لكنها لم تدلني ابدا كيف اكتب حكاية "دم الزغلول" ، و ها انا ذا بدلا من أن أكتب حكايتي عن "دم الزغلول" , أتورط في الكتابة عن حب حلو مثل " السكر الفضي" ؛ ها أنا أتورط في السرد بدون أي حكاية و بلا أي معني في زمن غاب فيه المعني عن كل شيء و صرنا أسرى الشياطين الكامنة في التفاصيل الصغيرة , و أسرى الدول العظمي و الدويلات التافهة .

بلقيس


اليوم تذكرت بلقيس. اليوم تذكرت جوقة الأطباء العراقيين الذين عملت معهم. تذكرت نفسي و انا اجري بين غرف المرضى , و بين المختبر و بنك الدم . تذكرت بلقيس. لم تكن بلقيس هذه "بلقيس الراوي" زوجة " نزار قباني" , التي قتلت في تفجير السفارة العراقية في بيروت.

تذكرت بلقيس و تذكرت نفسي و تحسرت على حالتنا. تذكرت الدكتورة رشا الطبيبة العراقية . لم اكن اعرف ان كانت الدكتورة رشا قد تخرجت حديثا من بغداد ام من البصرة ام من الموصل. كانت رشا شقراء مثل السويديات و رزينة و صارمة كضابط انجليزي. لم يخطر ببالي يومها أن اسالها إن كانت ايزيدية أم كلدانية. لم اكن اعرف حتى ان كان في العراق شيعة و سنة. كنت غارقا في مطالعاتي لفالح عبد الجبار؛ لم اكن قد قرأت لحنا بطاطو بعد. كنت قد شاهدت الفسيفساء في خرائب قصر إبن هشام في أريحا, لكنني لم اكن اعرف شيئاً عن الفسيفساء الإثنية و الطائفية في العراق. كانت نساء العراق يتوشحن بالسواد و كانت رشا تسفر عن اجمل وجه قادم من أرض السواد. كانت العراق تتشح بالسواد, لكن لم يخطر في أسوأ ما يمكن أن يدور في مخيلتي أن بنات العراق سيصبحن سبايا في سنجار.

اليوم تذكرت بلقيس. كدت أن أقبل بلقيس. كدت أن أقبل وجه بلقيس. كدت أن أقبل جبين بلقيس. كنت انظر للملائكة في عيون بلقيس. كنت أنظر للرخام البلوري في جسد بلقيس. كانت بلقيس ترسم صورة زاهية للعراق بالرغم من كل الاخبار القادمة من بغداد. كانت جوقة الأطباء العراقيين تعزف قصيدة موطني قبل أن يختاره العراق نشيدا وطنيا. لم يكن اي قسم في المستشفى يخلو من طبيب عراقي. من طبيب متطوع أو مقيم أو استشاري يندر وجود ند له في كل المشرق العربي. الدكتور الطائي ذكرني بالعرب العاربة و المستعربة. و طبيب مقيم في قسم الاذن و الحنجرة كان يذكرني بالبشاشة. و الدكتور دارا الكردي في قسم جراحة الأعصاب كان يقرص ضميرى العربي و يكتب حلبجة و الكيماوي على ثنايا دماغي بالرغم من وجهه الضحوك. و استشاري الامراض النفسية ذكر لي بأن اشهر اخصائي للصحة النفسية في غزة كان زميله في لندن عندما كانا يقدما امتحانات الزمالة و افشي لي سرا بأن كل المحاولات العديدة لصاحبنا الغزي في النجاح في امتحان الزمالة باءت بالفشل. كلهم كانوا يذكرونني بحب العراقيين لفلسطين و كلهم كانوا يذكرونني بأن كل زبد العراق كان يهرب منها بينما كان صدام يحتفظ بابي بكر الصحاف و عشرات الملايين من العراقيين المنهكين.

اليوم تذكرت بلقيس. تذكرت سباقي مع الوقت حتى احضر اكياس الصفائح الدموية و حتي لا تفوتني نتائج اخر تحليل للدم. تذكرت نفسي و أنا أنزل من تلال العلي مشيا على الأقدام. تذكرت كيف كنت أستقل الحافلة من المدينة الرياضة لأصل للمستشفى صباحا . تذكرت كيف بدأت ألهث و أنا أصعد الدرجات المؤدية لمستشفي الجامعة و أنا في الثامنة و العشرين من عمري. تذكرت أني أوعزت ذلك لبدئي تدخين الروثمان بدلا من الفايسروي. تذكرت نفسي و انا القادم من دولة عظمى تبخرت من الخرائط لتدخل كتب التاريخ. تذكرت نفسي و انا القادم للتو من مناوشاتي الصامتة مع ضباط لم يكونوا قد أتموا بعد محاولاتهم البائسة في تشييد جمهورية موز في اريحا. تذكرت نفسي و انا القادم من مستشفيات غزة التي كان يفتخر أولياء امرها الجدد بأهم انجازاتهم؛ كانوا يفتخرون بأنهم استطاعوا ضبط تهريب المسلتزمات الطبية من غرف عمليات المستشفيات الى العيادات الخاصة؛ لم ينتبه أولياء أمرنا الجدد و هم يعينون العولام حاداشيم في المناصب الحساسة, ذات المكافئات العالية, أن راتب الطبيب لم يكن يتجاوز أنذاك الالف و أربعمائة شيقل جديد.

اليوم تذكرت بلقيس و المريضة الشركسية و رجب الذهبي القادم من الصحراء بتوصية من أمانة العاصمة ليتلقى جرعة من العلاج الكيماوي كل ثلاثة اسابيع في مستشفي الجامعة. تذكرت كيف تعلمت خلال ثلاثة شهور أن أجري بنفسي اغلب الإجراءات و التدخلات التي من المفترض أن يجريها طبيب المستشفي من خزعة نخاع العظم حتي خزعة السائل الشوكي ، و من وضع أنبوبة في تجويف الصدر حتى سحب الماء المتراكم في البطن. تذكرت المناوبات التي تبدأ حتى لا تنتهي. تذكرت نفسي و انا اتحسس جسدي خشية من أن أكون قد اصبت بالسرطان بعد أن فقدت ستة عشر كيلوجرام من وزني خلال أقل من اثنى عشر شهرا. تذكرت بلقيس و هي تطير على بساط الريح من السرير الى السرير. تذكرت المختبر و البلازما المجمدة الطازجة و الهيبارين و سرطان الدم بانوعه و أشكاله. تذكرت أم في مطلع الأربعينيات من عمرها و هي تندب حظها على ابنها الوحيد. كانت تلوم الأطباء و ادويتهم التي حقنوا بها ابنها لعله يأتي لها بحفيد أو بحفيدة. كانت تلوم ادويتهم على إصابتة بسرطان الغدد الليمفاوية.

تذكرت بلقيس. لم يمنعني الموت الذي كان يحاصرني من كل الزوايا أن احاول ان اشارك في منح الحياة فرصة ، ولو ضئيلة. كانت الغدد الليمفاوية تضغط على فك ابنها. تذكرت كيف بدأت في الصلاة بعد أن تركتها لأكثر من أربعة عشر عاما. كان ابنها يلتقط أنفاسه الأخيرة. حاولت أن امنحه انفاسا اضافية. لم يطاوعني فكه في وضع أنبوبة التنفس الاصطناعي . لم يطاوع حتى زميلتي، التي كانت تفوقني خبرة، و التي كانت تشرف على و تشرف معي علي نفس المرضى . رأيت عزرائيل في غرفة المريض بعد منتصف الليل . صار الله الذي تركته جانبا ، نصف عمري انذاك، يلح علي كما لم يلح على من قبل، و كما لم يلح على أبداً.

اليوم تذكرت بلقيس و تذكرت نفسي. اليوم تذكرت العراق و تذكرت غزة. اليوم تذكرت كيف كانت زبدة العراق تهرب وكان صدام حسين التكريتي يحتفظ بابي بكر الصحاف و عشرات الملايين من العراقيين المنهكين بجواره حتى يتصدوا للعلوج. اليوم زفت لي الاخبار المجاز بأن قادة الفصائل يشاركون بتنفيذ مبادرة طبخ "مقلوبة المقاومة" في غزة.

اليوم تذكرت بلقيس. تذكرت أول شهادة وفاة كتبتها في حياتي.
كتبت التشخيص:
سرطان كرات الدم البيضاء .
كتبت تاريخ الوفاة:
في يوم حزين من أيام شهر رمادي من شهور عام ألف و تسعمائة و ستة و تسعين.
كتبت تاريخ الميلاد:
في يوم أخضر من أيام شهر ربيعي من عام ألف و تسعمائة و سبعة و ثمانين.
كتبت سبب الوفاة :
التَّخَثُّرُ المُنْتَشرُ داخِلَ الأَوعِيَة الدموية .
كتبت كل شيء لكنني لم اكتب شيئا عن حزني على بلقيس و لا عن سعي في نقل بلقيس على بساط الريح من سبأ إلى يوريشاليم. .
كتبت كل شيء.
كتبت اسم بلقيس.

17‏/05‏/2019

إسماعيل يعود حافيا إلى الجنة

كنت في صغري ملتصقا بعمي اسماعيل. كنا نسكن في بيت مستأجر به سبعة غرف و قاع دار بها نخلة باسقة. كان لعمي غرفة بها مكتب يمارس عليه الرسم باقلام الفحم و الأحبار و كان بها فانوسا يصنع به سحرا شبيها بما يفعله الفنانون البصريون الٱن ببرامج الكومبيوتر.

كنت اتمسمر على كرسي بالقرب من عمي في اخر الليل عندما يذهب الجميع إلى النوم. كان يتسلى بالرسم أو يقوم بعمل تصميماته و رسوماته  للمجلات القليلة  التي كانت تصدر آنذاك  في غزة و لإعلانات تجارية كانت تجلب له مزيدا من الرزق . كنت اراقبه و هو يرسم و يصمم أغلفة المجلات و الاعلانات. كان عمي اسماعيل ينثر علي القرشلة و القضامة كما كان ينثر علي حكايات من زمن بعيد. لم اكن اسمع مثل هذه الحكايات من والدي. الهجرة كانت أقصى كلمة من الممكن أن أسمعها منه، فلقد هاجر جدي و أسرته من المجدل بينما كان عمر والدي خمس سنين و عمر عمي إحدى عشرة عاما.

كان عمي يحدثني عن النول و المسدية و طقوس صناعة النسيج في البلاد؛ عن البيوت القديمة و وادي النمل و اربعة ايوب و ضريح الحسين؛ كان يحكي لي عن سيده الحاج حسين و سته الحاجة فاطمة و عن الحاكورة و الضباع و بنات أوي ؛ كان يحدثني عن ليرات الذهب، و كان ينثر ببساطته و براءته على الكلام الكثير من السحر. 

لم يذكر لي عمي كل الحكاية. خرج جدي من المجدل في بدايات نوفمبر / تشرين ثاني من تلك السنة المشؤومة . كان المصريون يؤكدون أن الأمر هو مجرد انسحاب تكتيكي. ساروا مع أكثر من عشرة الاف من سكان المجدل و من اللاجئين، الذين لجئوا الى بيوتها و شوارعها و مبانيها العامة من القرى و البلدات المحيطة، خلف عربات الجيش المصري سالكين طريق الشاطيء جنوباً . كانوا متيقنين أنهم سيرجعون بالتأكيد قريباً الى بيوتهم. حمل جدي معه والدته و زوجته و أبناءه و بناته و ما خف وزنه و زاد ثمنه. بقي في المجدل والده، الذي يقال أن عمره كان قد قارب القرن، و أخيه و عائلته و ٢٦٠٠ نسمة. و ترك جدي دكانة عامرة بالبقالة و النول و خيوط النسيج التي كان يمتلكها في المجدل. استطاع جدي أن يستأجر بيتا في غزة و سرعان ما اسس تجارة قائمة على الصناعة اليدوية للنسيج.

لم يذكر لي عمي كل الحكاية. فعمي الذي أقتلع من ذروة طفولته عند هجرتهم لم ترق له غزة بالرغم من أن وضع والده كان فوق الريح , إذا ما قورن بالمئتي و الخمسة آلاف لاجيء الذين جاؤوها من كل مكان في فلسطين حاسبينها سفينة نوح.

لم يذكر لي عمي تعلقه بجده.، لكنني رأيت البورتريه الذي رسمه له. لم يذكر لي عمي تعلقه بالمجدل، لكن المجدل كانت تنزف حياةً في لوحاته. كان يفيض بالحكايات عن جده و جدته .

لم يذكر لي عمي انه عاد مع العائدين بعد أسابيع قلائل من استقرارهم في غزة. لم يذكر لي أن تسلل مع المتسللين إلى المجدل. عاد مع الذين كانوا يتسللون من غزة على ضوء القمر ليجلبوا الفِراش و أواني الطعام و ملابس الشتاء التي تركوها في بيوتهم. ليأتوا بما خزنوه من غلال حقولهم، و ليحلبوا ماعزهم و ليتفقدوا ما علق باحلامهم من غبار الخيام.

لم يذكر لي عمي, و أنا في ذلك العمر, أنه عاد إلى المجدل حافيا. لم يذكر لي عمي انه مكث مع جده و عمه و أسرته ما يزيد عن الثمانية عشر شهرا كي يمارس ما تبقى من طقوس الطفولة. لم يذكر لي انه كان يتسلق البيوت المهجورة باحثا عن البنانير التي تركها أقرانه. لم يذكر لي عمي شيئا عن السياج الذي أحاطوا به بيوت المجدل القديمة. لم يكن عمي البسيط يعرف شيئا اسمه الجيتو.

لم يذكر لى عمي، و انا في ذلك العمر، انه لم يترك المجدل حتى مرض جده العجوز و امتنع عن الاكل و الكلام. لم يذكر لي عمي أنه لم يترك المجدل إلا بعد أن بات السياج يضيق و يضيق على المجادلة. لم يكن عمي يعرف انه لم يترك المجدل الا بعد أن تم تعيين موشيه دايان قائدا عسكريا للجنوب. لم يكن عمي يعرف أن موشيه دايان طلب من ضابط العمليات في قيادة الجنوب ، الكابتين عاموس جوريف، أن يقدم له مشروعا لنقل الفلسطينيين من المجدل. لم يكن عمي يعرف أن يوري جيجيك، الذي صار مسؤولا لبلدية غزة مرتين في ١٩٥٦ و أثناء الانتفاضة، قد أبلغ المجادلة أن ساعة رحيلهم من بلدتهم قد ازفت. لم يكن أحد يدرك أن المجادلة لم يطردوا من الجيتو الى معسكر الاعتقال الا بعد أن أشار بن غوريون, و هو في مسبحه في طبريا, لموشية دايان بيده بأن يُجليهم بعيدا بدون أن ينبس ببنت شفة.

لم يخبرني عمي انه غادر الى غزة قبل أسابيع قلائل من وفاة جده في المجدل. لم يخبرني عمي و انا في ذلك العمر انه غادر قبل أشهر قلائل من ترحيل عمه و أسرته من المجدل إلى الخليل. لم يخبرني عمي أن عمه و اسرته كانوا قد تسللوا بعد سنتين من الظاهرية, على سنام الجمال فى جنح ظلام الصحراء، بعد أن ضاقت بهم الحال الى غزة.

لم يخبرني عمي عن كل ذلك، لكنه كان يخبرني عن الجنة، و عن ليرات الذهب التى كانت في المجدل. لم يخبرني عمي عن كل ذلك، لكنه نثر على سحر البلاد و اغرق نظري بصورها التى اختزنتها ذاكرته البصرية.



12‏/05‏/2019

هناك


هناك أشذب لغتي من غبار الكلام. أحاور الماضي غير مكترثا بما سيحمله القادم من الوقت. أطارد ظلي. أنهمك في العمل. ألاحق المواعيد. يحاربني الوقت. يباغتني الأرق. يلاحقني التعب. يستيقظ ضميري فجراً على صوت المنبه. أشرب كأسي وحيداً. أناقش نفسي. أستمر بأصدقاء بنكهة الأعداء. بمعارف بنكهة الأصدقاء. أشاركهم عشاء شبه رسمي. غذاء عمل. موعد على فنجان قهوة خارج المكتب.


هناك أحاصر نفسي بالأسئلة. تداهمني الإجابات بدون حسم. توجه إلى السلطة سهامها بدون حزم. يغويني جمال الطريق. أبحث عن المعنى في الكلاب التي تجوب الشوارع. في هديل الحمام. في دقة مواعيد وصول الحافلات. في إنضباط الإشارات الضوئية. في ألوان قوس قزح.  في مسار الدراجات الهوائية. في ملل العيش بدون إنقطاع التيار الكهربائي. في نموذجية المياه  الباردة التي تمنحها لنا الحنفية. في رتابة الأشياء. في إنتظار موعدي مع الطبيب أسبوعاً كاملا كي أقابلة عشر دقائق.في عبث الحياة. في موعد الموت . في يوم القيامة. في حكمة الألهة. في حماقة البشر. في الحفرة التي وجدت نفسي فيها مع أعداء دمي.


هناك أبحث عن هنا. أبحث عن دمي الذي لم ينزف. عن كلامي الذي لم أحكيه. عن مشاعري الدفينة. عن ذكرياتي المخفية. عن الدبكة التي لم أتقنها. عن سبب فيضان الأدرنالين من دمي في المسرح الروسي عندما إنطلق أحمد قعبور ب " أناديكم". عن المطارات. عن القطارات. عن علاقاتي السريعة التي لم تتم. عن حياتي الزوجية. عن المشي وحيدا في "درب الألام". عن إنتظاري لجودو.


هناك أستمر في عبثي. في تكرار ذاتي. في أن أكون هنا. في مداعبتي السمجة لروحي. في حنيني لمعانقة القمر. للعودة إلى دفتر الرسم. للرجوع إلى الجنة الموعودة. لإستعادة الفردوس المفقود. لاقتناء أرض جدي في المريخ. في بحثي عن أحصنة خشبية. في محاولة قياس المسافة بين عقلي و قلبي. في محاولة اختزال نفسي في بضعة أسطر.



5/9/ 2016










أولاد الغولة


ليست كاميرا خفية
ليست مزحة ثقيلة الظل
لا نهرب من الغول
لا يفترسنا – ليته فعل-
يعضنا الغول بلطف بالغ
آثار أسنانه على كل جزء من أجسادنا – أرواحنا
نشاكسه قليلا
يحتضننا الغول
نرتمي في حضنه
نبتعد عنه قليلا
نتعود على الخوف – لم نعد نعرف الخوف-
نتعود على اللعب مع الغول بالألعاب النارية و بأسنانه الصلبة 
نرمي له ببعض أطفالنا ليأكلها
يقلم أظافرنا
نمشط شعره
نستأنسه
يستغولنا




11‏/05‏/2019

أزهار الشر


( مع الإعتذار لبودلير )

لا تجزع كثيراً لأنك لست بطلاً من هذا الزمان. لا تبالي بكونك لا تتقن الكذب. لا تجيد التمثيل. لم تتعلم الديبلوماسية. لا تكثر من المجاملات. لا تجيد التفاوض. لا تؤمن بالمساومات.  لا تكترث بعدم إستقرار مشاعرك. بمزاجيتك. بغرابة أطوارك. بحدتك و ببلاهتك. بملامح وجهك التي تفصح عن موقفك.  بالعرق الذي يفيض من مسامات جلدك عندما تحرجك المفارقات. لا تخف من احمرار لون وجهك عندما تراودك نفسك بالكذب. لا تكسر الزجاج لأنه شفاف.

لا تتخلى عن ترددك. عن قد و ربما. لا تهرب إلى اليقين. لا تتسلق الأحزاب و مأذن المساجد. لا تلتزم بشروط ربطة العنق و الحلة الرسمية. أهرب من الوظيفة و من الانتماء. من الالتزام و الارتباط العضوي. من عبء الأيديولوجيا و سلطة القبيلة. واظب على عدم الرضا. على النقد الذاتي خارج حياض العشيرة. أجلد ذاتك كلما شعرت بالبلادة و بنشوة الإنتصارات الصغيرة.

لا تخجل من فشلك المتكرر. من نوبات بكائك. من دموعاك الغزيرة. من مرارة حلقك. من هستيرية ضحكاتك. من قلقك. أرقك. مللك من رتابة الأيام. من صلواتك السرية. من إلحادك المستتر. من لانمطيتك. من تناقضاتك. من تعقيداتك. من بساطتك. حافظ على ضجرك الدائم. نزقك.  إنهياراتك. تأنيب ضميرك. تحدي الواقع. نكأ جراح الماضي.

أفضل ما فيك أنك عادي جداً. حقيقي إلى حد  الفضيحة. فحافظ على عاديتك. على حزنك المستوطن. على أفراحك الطارئة. على صمتك الدائم. على ثوراتك الموسمية. على إضطرابات قلبك. على شظايا عقلك. على  شطحات جنونك. على ومضات عبقريتك. على هذيانك و رصانتك. فتش عن أنقاضك في ركام حروبك الصغيرة و حروب الدول الكبرى.

أجمل ما فيك أنك غالبا ما تعترف بخطاياك. إعترف؛ لكن لا تذهب إلى قس الكنيسة و إمام الجامع. الله في كل مكان. يملأ شرايينك و حجرات قلبك. يقرأ دفاترك و خواطرك.  يعد زفراتك و أفعالك. يحاسبك و يغفر لك. إعترف لكن لا ترجم نفسك بصلاة الاستغفار. تأمل أزهار الشر بين أصابعك. انتصر لبذور الخير في قلبك. كن عاديا كما أنت؛ حقيقيا كما عهدتك. لا تخفض رأسك للريح؛ فأنت لست قمحاً بل سروةً تسييج البيدر. لا تنجرف مع التيار حتى لا تجد نفسك طمياً للبحر. إستمر في تواضعك عند أهل التواضع؛ واظب على تعاليك على المتغطرسين. على ثوريتك المهزومة. سكونك المنتصر. انكساراتك الدائمة. إنكسركل مرة, و انبعث في كل حين.  

أعرف أنك لم تعش الحياة التي تستحقها. قُتلت ألف مرة. إحترقت كل يوم. تعذبت في كل زفرة من زفراتك. أخطأت و أصبت. توترت و إسترخيت. ثرت و هدأت. أعرف أن أحداً لم يسمع صوتك. تجاهلك الجميع. تجاهلوا عبقريتك و نبوؤتك. تهكموا على سخافاتك و تفاهاتك. احتفلوا بهزائمك أكثر مما احتفوا بانتصاراتهم. سخروا منك لأنهم كانوا يعرفون أنك تعرييهم دائماً  و تضعهم أمام مراياهم التي حاولوا كسرها. لأنك لم تخضع للمؤسسة. لم تنافق مديرك في العمل. لم تكن جزءاً من الشلة. إستنكفت عن الأحزاب و قاطعت الإنتخابات. كفرت بالنخب. أمنت بالله  لكنك لم تعبد أصنام الدين وهجرت طقوسها .لم تشتريك الشركات العالمية و المحلية. لم تتعاون مع أجهزة الأمن.أضحيت  هامشياً جداً عندما أضحى المتن خراباً. 

لا تكترث بهامشيتك. بأزهارك الذابلة و ببذورك التي  لم تنبت بعد. لا تخجل من ماضيك و لا تتملص من واقعك. لا تحزن لأنك البطل الخطأ في الزمان الخطأ في المكان الخطأ. بعد حين؛  سيكتشفون  يا عزيزي أنك كنت نبياً.  ستنجلى نبوؤتك بعد موتك. فحافظ على عاديتك و حقيقيتك في  حياتك؛  وتأمل أزهار الشر وبذور الخير في روحك, حتى ينبت الأقحوان بجوار قبرك.