17‏/05‏/2019

إسماعيل يعود حافيا إلى الجنة

كنت في صغري ملتصقا بعمي اسماعيل. كنا نسكن في بيت مستأجر به سبعة غرف و قاع دار بها نخلة باسقة. كان لعمي غرفة بها مكتب يمارس عليه الرسم باقلام الفحم و الأحبار و كان بها فانوسا يصنع به سحرا شبيها بما يفعله الفنانون البصريون الٱن ببرامج الكومبيوتر.

كنت اتمسمر على كرسي بالقرب من عمي في اخر الليل عندما يذهب الجميع إلى النوم. كان يتسلى بالرسم أو يقوم بعمل تصميماته و رسوماته  للمجلات القليلة  التي كانت تصدر آنذاك  في غزة و لإعلانات تجارية كانت تجلب له مزيدا من الرزق . كنت اراقبه و هو يرسم و يصمم أغلفة المجلات و الاعلانات. كان عمي اسماعيل ينثر علي القرشلة و القضامة كما كان ينثر علي حكايات من زمن بعيد. لم اكن اسمع مثل هذه الحكايات من والدي. الهجرة كانت أقصى كلمة من الممكن أن أسمعها منه، فلقد هاجر جدي و أسرته من المجدل بينما كان عمر والدي خمس سنين و عمر عمي إحدى عشرة عاما.

كان عمي يحدثني عن النول و المسدية و طقوس صناعة النسيج في البلاد؛ عن البيوت القديمة و وادي النمل و اربعة ايوب و ضريح الحسين؛ كان يحكي لي عن سيده الحاج حسين و سته الحاجة فاطمة و عن الحاكورة و الضباع و بنات أوي ؛ كان يحدثني عن ليرات الذهب، و كان ينثر ببساطته و براءته على الكلام الكثير من السحر. 

لم يذكر لي عمي كل الحكاية. خرج جدي من المجدل في بدايات نوفمبر / تشرين ثاني من تلك السنة المشؤومة . كان المصريون يؤكدون أن الأمر هو مجرد انسحاب تكتيكي. ساروا مع أكثر من عشرة الاف من سكان المجدل و من اللاجئين، الذين لجئوا الى بيوتها و شوارعها و مبانيها العامة من القرى و البلدات المحيطة، خلف عربات الجيش المصري سالكين طريق الشاطيء جنوباً . كانوا متيقنين أنهم سيرجعون بالتأكيد قريباً الى بيوتهم. حمل جدي معه والدته و زوجته و أبناءه و بناته و ما خف وزنه و زاد ثمنه. بقي في المجدل والده، الذي يقال أن عمره كان قد قارب القرن، و أخيه و عائلته و ٢٦٠٠ نسمة. و ترك جدي دكانة عامرة بالبقالة و النول و خيوط النسيج التي كان يمتلكها في المجدل. استطاع جدي أن يستأجر بيتا في غزة و سرعان ما اسس تجارة قائمة على الصناعة اليدوية للنسيج.

لم يذكر لي عمي كل الحكاية. فعمي الذي أقتلع من ذروة طفولته عند هجرتهم لم ترق له غزة بالرغم من أن وضع والده كان فوق الريح , إذا ما قورن بالمئتي و الخمسة آلاف لاجيء الذين جاؤوها من كل مكان في فلسطين حاسبينها سفينة نوح.

لم يذكر لي عمي تعلقه بجده.، لكنني رأيت البورتريه الذي رسمه له. لم يذكر لي عمي تعلقه بالمجدل، لكن المجدل كانت تنزف حياةً في لوحاته. كان يفيض بالحكايات عن جده و جدته .

لم يذكر لي عمي انه عاد مع العائدين بعد أسابيع قلائل من استقرارهم في غزة. لم يذكر لي أن تسلل مع المتسللين إلى المجدل. عاد مع الذين كانوا يتسللون من غزة على ضوء القمر ليجلبوا الفِراش و أواني الطعام و ملابس الشتاء التي تركوها في بيوتهم. ليأتوا بما خزنوه من غلال حقولهم، و ليحلبوا ماعزهم و ليتفقدوا ما علق باحلامهم من غبار الخيام.

لم يذكر لي عمي, و أنا في ذلك العمر, أنه عاد إلى المجدل حافيا. لم يذكر لي عمي انه مكث مع جده و عمه و أسرته ما يزيد عن الثمانية عشر شهرا كي يمارس ما تبقى من طقوس الطفولة. لم يذكر لي انه كان يتسلق البيوت المهجورة باحثا عن البنانير التي تركها أقرانه. لم يذكر لي عمي شيئا عن السياج الذي أحاطوا به بيوت المجدل القديمة. لم يكن عمي البسيط يعرف شيئا اسمه الجيتو.

لم يذكر لى عمي، و انا في ذلك العمر، انه لم يترك المجدل حتى مرض جده العجوز و امتنع عن الاكل و الكلام. لم يذكر لي عمي أنه لم يترك المجدل إلا بعد أن بات السياج يضيق و يضيق على المجادلة. لم يكن عمي يعرف انه لم يترك المجدل الا بعد أن تم تعيين موشيه دايان قائدا عسكريا للجنوب. لم يكن عمي يعرف أن موشيه دايان طلب من ضابط العمليات في قيادة الجنوب ، الكابتين عاموس جوريف، أن يقدم له مشروعا لنقل الفلسطينيين من المجدل. لم يكن عمي يعرف أن يوري جيجيك، الذي صار مسؤولا لبلدية غزة مرتين في ١٩٥٦ و أثناء الانتفاضة، قد أبلغ المجادلة أن ساعة رحيلهم من بلدتهم قد ازفت. لم يكن أحد يدرك أن المجادلة لم يطردوا من الجيتو الى معسكر الاعتقال الا بعد أن أشار بن غوريون, و هو في مسبحه في طبريا, لموشية دايان بيده بأن يُجليهم بعيدا بدون أن ينبس ببنت شفة.

لم يخبرني عمي انه غادر الى غزة قبل أسابيع قلائل من وفاة جده في المجدل. لم يخبرني عمي و انا في ذلك العمر انه غادر قبل أشهر قلائل من ترحيل عمه و أسرته من المجدل إلى الخليل. لم يخبرني عمي أن عمه و اسرته كانوا قد تسللوا بعد سنتين من الظاهرية, على سنام الجمال فى جنح ظلام الصحراء، بعد أن ضاقت بهم الحال الى غزة.

لم يخبرني عمي عن كل ذلك، لكنه كان يخبرني عن الجنة، و عن ليرات الذهب التى كانت في المجدل. لم يخبرني عمي عن كل ذلك، لكنه نثر على سحر البلاد و اغرق نظري بصورها التى اختزنتها ذاكرته البصرية.



ليست هناك تعليقات: