11‏/05‏/2019

حكاية البحث عن "محمد راضي خليل".




اين هو الان؟ اكاد أن أكمل خمسة و عشرين عاما و انا ابحث عنه. ابحث عنه في ذاكرتكم و في صفحات الويب. إنه محمد. محمد إبن مدرستي الفقيرة النائية، التي كانت تعشعش فيها الوطاويط و المناشير و الطلاب القادمين من كل احياء البؤس شرق المدينة، و حتى من أطراف جباليا، القرية التي كانت تتمدد شمال شرق المدينة.

اين انت الآن يا محمد؟ اين اختفيت لابحث عنك بكل هذا الجد؟

على عكس اغلب، أو كل، رفاقي في المدرسة،  التحقت انت  بالقسم الادبي. لا اذكر كيف تعرفت عليك، و كيف عثرت عليك او تعثرت بك في طريقي من المدرسة إلى البيت. كان أغلب، أو كل، رفاقي في المدرسة الثانوية من بقايا زملائي الذين واصلوا الدراسة معي من ايام مدرسة الانروا الابتدائيه و من ثم من أيام المدرسة الاعداديه. كانوا جميعا من نفس الحارة. كنت اعرفهم و كنا نعرف بعضنا الأخر على مدار سنين طويلة. أما انت فلقد جئت من مخيم ما، من مخيم جباليا أو من  المغازي أو من النصيرات، لتسكن في أطراف الحي. في بيت لا أعرفه بين بيوت صغيرة أخرى في زقاق ضيق لا يختلف عن بيوت المخيمات. حتى اسمك الثلاثي كان يختلف عن اسمائنا. كان لكل واحد منا كنية أو اسم عائلة يتظلل بها، بينما كنت تحمل إسما ثلاثيا يبدو كالاسماء المصرية أو كاسماء نجوم السينما.

اين انت الان يا محمد؟ اين أنت الأن يا " محمد راضي خليل" ؟

اين اختفيت بعد غيابي عن البلد لثماني سنوات؟ اين انت الان؟ سألت زملائنا عنك. لم يتعرف عليك أحد من رفاق المدرسة و لا من جيران الحارة. لم المح في عيونهم اي استنكار, عندما سالت عنك. لم اشاهد اي تعجب على وجوههم عندما ألححت في السؤال عنك. لقد انكروك جميعاً كانك لم تكن. كانت اجاباتهم حاسمة و حازمة بأنهم لا يعرفونك أو لا يتذكرونك.

اين اختفيت يا محمد؟ اين هي الارض التي ابتلعتك؟ بحثت عنك في جدران المدينة، خشية من أن تكون علبة " بويا سبراى"  قد خطت اسمك  على جدار من جدران المدينة، فلم اجدك. بحثت عنك في قوائم الشهداء، فلم اجدك. بحثت عنك في الغرف المنفردة و البيوت الضيقة التي نمت على أطراف العزبة، في الجهة المقابلة لمسلخ البلدية، فلم اجدك. طبعت اسمك الثلاثي كاملا على محركات البحث، فلم اجدك. ظللت ابحث عنك و لا اجدك. ابحث عنك فلا اجدك الا في ذاكرتي.

كدت أن احسم الأمر انك محض وهم. كدت أن اجزم بجنوني، و انك مجرد هلوسات. امعنت تفكيري في علاقاتي السطحية العابرة و المبتسرة بالأخرين.  امعنت التمحيص في سذاجتي و في قدراتي العقلية. كدت أن انساك، لكنني اتذكرك جيدا. اتذكرك مثل ساعتي الرخيصة، التي تلف حزامها ذات يوم فوضعتها علي رف ما أو في درج ما في غرفة مكتبي لأكتشف  بعد حين  أنها إختفت  الى الابد. اذكر وجهك تماما. اذكرك هيئتك تماما.

 اليوم تذكرتك مرة أخرى. تذكرتك و انا انظر إلى الشهيد المغدور ابو جامع، و هو مكبل اليدين، بين ضباط الشاباك. اليوم تذكرت خوفك و جرأتك. لم تكن بحجم المغدور و هيئته. لكن وجهه ذكرني بوجهك. وجهه الخائف. وجهك المفعم بالتوتر. وجهك الخجول الذي كان سرعان ما يقطر بالعرق و يورد بالاحمرار. وجهك الخائف, الذي كان يتستر على  الجرأة.

تذكرت الطريق الذي كنا نخطه عائدين من المدرسة. تذكرت كيف اصطحبتك يوما الي الشقة الصغيرة في وسط البلد، عندما سلمت في مدخلها الأسير المحرر الذي كان  يدير في غزة مكتب جريدة، يرأس تحريرها بعثي قديم لتصدر مرتين اسبوعيا في القدس  ، خربشات من الكلمات و  من الجمل و رسومات بالحبر الاسود لامهرها باسمي الاول فقط. لا اعرف كيف اصطحبتك الى "عملى السري" هذا، فلقد كنت مصرا ألا يعرف احد عن مساهماتي التافهة في جريدة محدودة التداول.

تذكرت طريقي الى مكان سكناك. كيف كنت  اسال عنك، لنخرج لمجرد الحديث. اذكرك حكاياتك عن "فتح"، و انا الذي كنت متهما منذ البداية دوما و زورا باليسار. عن الزنازين و مقابلات المخابرات التي ستكون نصيب كل واحد منا  على الأغلب، و أنهم يملكون الحق في احتجاز أي واحد منا  لثمانية عشر يوما بدون أيه تهمة . تذكرت كلامك عن شهوات النساء و الحكايات التى كنت تسردها عما يجري في بيوت بغرفة واحدة و بنصف دزينة أو بدزينة من الابناء و البنات.

ما زلت اذكرك و اتذكرك. ما زلت ابحث عنك و لا اجدك الا في ذاكرتي، فارقد فيها كما عرفتك انت، لا كما انت . ارقد فيها،لأظل ابحث عنك و لاظل أعرف مدى سذاجتي و ابتساري، و لأتذكر تعقيدات و بساطة الزمن الذي عشنا فيه.


ليست هناك تعليقات: