11‏/05‏/2019

عن فوائد المنفى


عن فوائد المنفى
بالأمس هناك :: الأن هنا.


(1)
ليس مكاناً للعيش؛ أتأمل الدنيا بحيادأفتح نوافذ الذاكرة بدون خوف. أمارس النقد الذاتي بعيداً عن خلية الحزب. أركن ذكرياتي مع المتغطرس الأكبر جانباً أمشي وحيداًمروج المدينة تفيض خضرةً أكون لنفسي لأنفاسي و قلبي و أعضائي التي باتت تغزوها الشيخوخة المبكرة؛ أو على حد أقصى منذوراً لمحيطي القريب إلى درجة التماس الجسدي و تعانق الأنفاس و تشابه الجينات.


بالأمس هناك؛ أحتك مع ذاتي لأصارعها و أحاورهاأهرب إليها حين لا أستطيع الإحتجاج على السياق العام؛ ألتصق بها حين يهرب مني محيطي؛ أعانقها حين لا أجد من يعانق روحيأمشي في شوارع ليست ليأسمع الموسيقى تحت الجسرأراقب الرسامين في الهاي ستريت أغار منهمينفخ رجال يرتدون التنانير في القِرَبْيرفرف  قلبي مع الأعلام في مباراة هبوعيل بئر السبع.  ألمس الأصبع الأكبر لقدم تمثال ديفيد هيوم النحاسيأتذكرعنصرية هيجلأكتفي بمجاز التنوير. يلقي مادز جلبرت محاضرة  عن حرب صيف 2014 و عن مستشفى الشفاء و طائرات الإسعاف النرويجيةيتناول المقلوبة مع صديقته الأيسلاندنية  في منتصف نهار السبت  على معدة خاوية في شقتيأدخل إلى قاعة المطالعة لأهرب من البيت و من السجائر إلى نفسي و شاشة الحاسوب و موقع السوشيال ميديا.


بالأمس هناك؛ أحرر بلادي من الغزو الصليبي على طريقتي الخاصةأبحث عن أهلى في الفيس بوك وفي  الأخبار العاجلة أعشق وطني أكثرأمكث ساعات أطول أمام الحاسوبألاحق الأخبار. تلاحقني الأخبارأنقع قهوتي في الماء المغلى بكأس  طالب الأنثروبولوجيا. يتعاطف معنا بعد أن يخدم في جيش الدفاع هو من حيفا و أخيه يسكن في أريئيل. والديه مولودان في رومانياأحتل مكتب الباحثة المولودة في الجولان السوريتناصرنا و لا تتناول إلا  الكوشير لا تريد لإبنتها أن تنمو في مجتع مريض فتهاجر إلى هنا مع زوجها.

بالأمس هناك؛ أخشي على زوجتي و حجابها من الإسلاموفوبيا أبحث عن أبي بكر البغدادي في المراَة ترعبني ملامحي الشرقية و لغتي المتعثرةأسكن بالقرب من المسجد الذي بناه الملك فهد. أبحث عن الفوارق بين طالب الدكتوراه الباكستاني و الملا عمرزوجته لا تضع غطاء الرأسلكنها لا تصافح الرجالذكية و طيبة جداسمراء لكنها ليست جميلةقبل تغادر إلى موطنهاتمنحنا فناجين شاي كثيرة و خلاط كهربائي صغير.


بالأمس هناك؛ أجد مبررا قويا للتهرب من حلاقة شعر رأسي. أواظب على حلاقة ذقني كل صباح أحرص على تناول قرص الأسبرين لأتأكد أن الدم يسرى في عروقيأتحسس جسدي خوفا من خيانة الإشارات الضوئيةيتدفق الأدرينالين رتيبا في دميأحجز موعدا مع  طبيب السكري للمرة الأولى منذ إكتشاف المرض لدي قبل أكثر من عشر سنوات. أملأ استبانة مفصلة عني و عن مرضيتقيس لى الممرضة ضغط الدمتأخذ عينة دم من وريدي.أستعرض خبراتي الطبية. أرشدها بخفة إلى المكان الأفضل لسحب الدمتبتسم برضاتمنحني كأساً بلاستيكياًأملأه بالبول أضعه في المكان المخصصأعود إلى قاعة الإنتظاريحضر الطبيبيصحبني معه إلى مكتبه. ينكب على قراءة الإستبانة و نتائج الفحوصاتأنظر إلى ذقنه التي لم يحلقها منذ يومينيناقشني قليلا عن نوع الإنسولين الذي أتلقاهأتذكر زملائي في مستشفى الشفاءيمنحني جهازا لفحص السكري متصل بالإنترنتيحذرني من الاكتئاب.

بالأمس هناك؛ أراقب نزيف الشعر من السهوب ومن بين حجارة المباني القديمةأذهب إلى السينماأستمع إلى الفيلوهرومونياالمتسولون يعشعشون على أرصفة المدينةتنقاد الكلاب أليفةً للباحثين عن صحبةيدفنون الكلب بجوار قبر صاحبه الأمير. أتأمل أجساد الفتيات بدون خوف من الفتنة يغرد الوشم على أردافهن و أكتافهن  بالحريةيحط الحمام بدون وجل في ساحات المدينة الصغيرة معلناً عن الرخاءتخرج الباندا من نومها الطويل لتقضم أوراق الشجريحذرون من إنقراضهالا أحد  يتذكر الهنود الحمرالمطر الغزير يغسل الدم عن شوارع عمرها خمسمائة عامكانوا يصدرون الدم و البوليس إلى ما وراء البحر ليستوردوا العبيد و الذهب و البهاراتيخصصون وقتا للشايلا أشرب القهوة في ستاربوكس. أصنع القهوة الإيطالية في البيتتنفذ سجائريأتناول جرعتي من النيكوتين عبر سيجارة إليكترونية صغيرتي تحفظ جدول الضرب بدون أن تُضرب ببرابيج مدرسات الوكالة. تتابع المسلسلات السورية و الرسوم المتحركة على اليوتيوبمسلسل الموت و اللجوء السوري يثير ضجري المومس تستيقظ من موتها بعد شنقها لينجو جنينهاهاري بوتر ولد في هذا المقهى. أذهب الى البار الذي يحتسي فيه الأطباء و طلبة الطب البيرة و الويسكي.


بالأمس هناك؛ أقرأ فوكو و بوكوفسكي بعدما كنت أخجل من قراءة ما كتبه جان جينبية عن عجلون و شاتيلاالمثلييون يرسمون أقواس قزح على الغيوم . أبحث عن الشمس و عن الأيام الدافئة في النشرة الجوية أشتري كتاب لويزا واه قابلوني في غزة".
(2)    
توزعني المطارات على المطاراتو الحواجز على الحواجزو المعابر على المعابرو نقاط التفتتيش على نقاط التفتيش.


يعود الزمن ثلاثين عاما للوراءتذكرني فرانكفورت بموسكوأعوض سهري بالنوم على مقاعد الإنتظار في المطار.


يستوقفني رجل الأمن. يفتش  في وثائق سفرنا عن دمنا وعن ركام بيوتنايطلب تأشيرة الدخول المنفصلة عن وثيقة السفريستفسر عن سبب القدوميستودع التأشيرةالحيرة و الخجل تختلطان  بنبرة صوته الجادةيسأل زميله ذو الرتبة الأعلىينصاع لأوامرهيضع ختم الدخول على وثائقنايضيف إلى الختم للمرورثلاثة أيام". تتسائل طفلتي: "لماذا لا يحبوننا يا أبى"؟تتعثر إجابتي و تتأخرتلح الصغيرة في السؤالأبحث في مدينتنا الصغيرة عن سبب و في فردوسنا المفقود عن مبررأرتبكأستجيب لألحاح الصغيرة: " لأننا الأفضل يا حبيبتيلأننا من غزةلأن فلسطين لدينا بلا إضافاتلم يسمحوا  لنا أن نُزور وثيقة سفرنا و حين لم ترضهم هويتنا مسحوها و حولونا إلى أشلاء".


نمضي ثلاثة أيامِ في مدينة بلا روح و بلا أشباح مدينة تشتبك فيها الدنيا لتتحدتتعانق فيها أزمات المحيط لتنتج دولة و أمةَ و عرشا.


المؤسسةأه من المؤسسةالهوية صارت لديها بطاقة للإعاشةيافا أضحت مخيماًبيادر القمح صارت أكياس طحينأعادت تدوير مراكب الصيد إلى السردين المعلب في جبل طارق تمنحني المؤسسة تسهيلاتها  اللوجيستية  و رسوم الدراسة مقابل الظلم الوظيفي و برابيج "المتغطرس الأكبر". تتوسط لنا بالحصول على تصريح للدخول إلى الجنةأغامر بالعبور بدون إمتيازات الفي أي بي على الجسريكلفني الأمر وقتا و أعصابا منهكةأنتظر السماح بالمرورأتأمل مشية الضباط و العساكر بزي وزارة الداخليةيذكرونني بالمتغطرس الأكبر. يتلذذون في الحفاظ على انتظام الطوابيرأشعر أنني سجين مع وقف التنفيذأكسب نصف راتبي الشهري مقابل الإنتظار و القلق أربع ساعات.

توزعنا المعابر على المعابر و الحواجز على الحواجزمن صفر صفر حتى خمسة خمسةيحاكي عسس المقاومة أمن الإحتلال بورقة صغيرة مترجمة إلى الضاد  من لغة أليعيزر بن يهودا يحاولون انتحال السيادةالحلابات تقودنا إلى الحلاباتنخرج من الوطن المحتل إلى الوطن المحاصرمن عبق الياسمين إلى رائحة الجسد البشريمن الفردوس المفقود إلى الجنة الموعودة.
(3)    

يطالعني كل بؤس العالم مركزا في مدينة تتوشح بالاسمنت و الغبارتشق سيارة المؤسسة طريقها في أزقة ضيقةتتلاشى الفوارق بين القرية و المدينة و المخيم المشاة و الحمير و السيارات تتنافس على ملكية الشوارع. أدخل شقتي لأجد جيناتي في إنتظاري مسترخية على كرسىيعانقني دمي و هو في العقد الثامنيتبادل ظلى أطراف الحديث مع جسديينام ظلى متعبا من شدة النعاسيغادرني جسدي في مناميتاركاً لى خبزا و زيتا و فواكه.

الأن هناأخرج مصافحا المدينة بلا عناق بلا حب و بدون كراهيةأستعيد هويتي التي تنتجها الشركاتأستقبل زواري القلائلأعود إلى عملى بروح البدايات الجميلة لأرتطم بعمر النكبة جاثماً على صدر مركز صحيأسترخي بعيدا عن التكنولوجيا.

الأن هنايقودني الحنين إلى الأنينحرارة الجو تتفاعل بسهولة مع كيمياء الدمالفلفل الأسمر يمشي متخايلا  في الشرايينالهوية تمنح الأدرنالين قفزاتهتداهمني الذكرياتترميني إلى أسماك القرشتمضغنيتلفظني منهكاً إلى شواطئ المجهولأسمع لعجوز: " قلبي كله صدا؛ ما بحبش حدا". أتأمل في الصدأ الذي تراكم على قلبي.

الأن هناأهرب من مياه البحر الخارجة من الحنفية لتفاجئني الماء التي توزعها الشركات الصغيرة بطعم الصدأأهرب من بيت بلا كهرباء إلى البحر لأستنشق رائحة المجاري.

الأن هناما زال الصبار ينمو على جدران المدينةيدفعني صوت الزنانات إلى إنتظار موعد الحرب القادمة؛ عتمة الليل إلى إنتظار أي تحسن في جدول التيار الكهربائي؛ و اَذان الفجر إلى إنتظار القيامة.

الاَن هنايتحول محدودو المواهب إلى قادة أنجي أوزتزدحم الفصائل بالقادةالجماهير تذهب في إجازة غير مدفوعة  الأجريعمل خريج السجن الباريسي في منظمة إغاثة إنسانية فرنسيةالمنظمة الدولية تحول عامل النظافة في كوبات حوليم و التمرجي في تشعاريت تسيديك إلى منسقين لخروج المرضى عبر إيريزالحواة و السحرة يتحولون إلى قادة مجتمع و نخب و مفكرينكان جديرا بهم أن يجدوا لهم مكانا في الرويال مايل لييستعرضوا مهاراتهم الأكروباتية و ليجمعوا القطع المعدنية في قبعاتهملا بأس لو أرسلوا طلبات توظيف إلي السيرك الروسي.

الاَن هنايتقاعد المعنى عن وظيفته العامةو يعتزل الأمل مهمته الثوريةو يغرق الشعر في الخطابة اليومية.

الأن هنايستيقظ إدوارد سعيد من قبره في منامييذكرني بفوائد المنفى.

آب 2016



ليست هناك تعليقات: