عن فوائد المنفى
بالأمس هناك :: الأن هنا.
(1)
ليس مكاناً
للعيش؛ أتأمل الدنيا بحياد. أفتح نوافذ الذاكرة بدون خوف. أمارس
النقد الذاتي بعيداً عن خلية الحزب. أركن ذكرياتي مع المتغطرس الأكبر
جانباً. أمشي وحيداً. مروج المدينة تفيض خضرةً . أكون لنفسي , لأنفاسي و قلبي و أعضائي التي
باتت تغزوها الشيخوخة المبكرة؛ أو على حد أقصى منذوراً لمحيطي القريب إلى درجة
التماس الجسدي و تعانق الأنفاس و تشابه الجينات.
بالأمس هناك؛ أحتك مع ذاتي لأصارعها و
أحاورها. أهرب إليها حين لا أستطيع الإحتجاج على السياق العام؛ ألتصق بها حين
يهرب مني محيطي؛ أعانقها حين لا أجد من يعانق روحي. أمشي في شوارع ليست لي. أسمع الموسيقى تحت الجسر. أراقب الرسامين في الهاي
ستريت . أغار منهم. ينفخ رجال يرتدون التنانير
في القِرَبْ. يرفرف قلبي مع الأعلام في مباراة هبوعيل بئر السبع. ألمس الأصبع الأكبر لقدم تمثال ديفيد هيوم
النحاسي. أتذكرعنصرية هيجل. أكتفي بمجاز التنوير. يلقي
مادز جلبرت محاضرة عن حرب صيف 2014 و عن مستشفى الشفاء و طائرات
الإسعاف النرويجية. يتناول المقلوبة مع صديقته
الأيسلاندنية في منتصف نهار السبت على معدة خاوية في شقتي. أدخل إلى قاعة المطالعة لأهرب من البيت و من السجائر إلى نفسي و
شاشة الحاسوب و موقع السوشيال ميديا.
بالأمس هناك؛ أحرر بلادي من الغزو الصليبي
على طريقتي الخاصة. أبحث عن أهلى في الفيس بوك
وفي الأخبار العاجلة. أعشق وطني أكثر. أمكث ساعات أطول أمام الحاسوب. ألاحق الأخبار. تلاحقني الأخبار. أنقع قهوتي في الماء المغلى بكأس طالب الأنثروبولوجيا. يتعاطف
معنا بعد أن يخدم في جيش الدفاع . هو من حيفا و أخيه يسكن في
أريئيل. والديه
مولودان في رومانيا. أحتل مكتب الباحثة المولودة في الجولان
السوري. تناصرنا و لا تتناول إلا الكوشير . لا تريد لإبنتها أن تنمو في مجتع مريض فتهاجر إلى هنا مع زوجها.
بالأمس هناك؛ أخشي على زوجتي و حجابها من
الإسلاموفوبيا . أبحث عن أبي بكر البغدادي في
المراَة . ترعبني ملامحي الشرقية و لغتي المتعثرة. أسكن بالقرب من المسجد الذي
بناه الملك فهد. أبحث
عن الفوارق بين طالب الدكتوراه الباكستاني و الملا عمر. زوجته لا تضع غطاء الرأس, لكنها لا تصافح الرجال. ذكية و طيبة جدا. سمراء لكنها ليست جميلة. قبل تغادر إلى موطنها, تمنحنا فناجين شاي كثيرة و خلاط كهربائي صغير.
بالأمس هناك؛ أجد مبررا قويا للتهرب من
حلاقة شعر رأسي. أواظب
على حلاقة ذقني كل صباح. أحرص على تناول قرص
الأسبرين لأتأكد أن الدم يسرى في عروقي. أتحسس جسدي خوفا من خيانة
الإشارات الضوئية. يتدفق الأدرينالين رتيبا في دمي. أحجز موعدا مع طبيب السكري للمرة الأولى منذ إكتشاف
المرض لدي قبل أكثر من عشر سنوات. أملأ استبانة مفصلة عني و عن مرضي. تقيس لى الممرضة ضغط الدم. تأخذ عينة دم من وريدي.أستعرض
خبراتي الطبية. أرشدها
بخفة إلى المكان الأفضل لسحب الدم. تبتسم برضا. تمنحني كأساً بلاستيكياً. أملأه بالبول . أضعه في المكان المخصص. أعود إلى قاعة الإنتظار. يحضر الطبيب. يصحبني معه إلى مكتبه. ينكب
على قراءة الإستبانة و نتائج الفحوصات. أنظر إلى ذقنه التي لم يحلقها
منذ يومين. يناقشني قليلا عن نوع الإنسولين الذي أتلقاه. أتذكر زملائي في مستشفى الشفاء. يمنحني جهازا لفحص السكري متصل
بالإنترنت. يحذرني من الاكتئاب.
بالأمس هناك؛ أراقب نزيف الشعر من السهوب
ومن بين حجارة المباني القديمة. أذهب إلى السينما. أستمع إلى الفيلوهرومونيا. المتسولون يعشعشون على أرصفة
المدينة. تنقاد الكلاب أليفةً للباحثين عن صحبة. يدفنون الكلب بجوار قبر صاحبه
الأمير. أتأمل
أجساد الفتيات بدون خوف من الفتنة. يغرد الوشم على أردافهن
و أكتافهن بالحرية. يحط الحمام بدون وجل في ساحات
المدينة الصغيرة معلناً عن الرخاء. تخرج الباندا من نومها الطويل
لتقضم أوراق الشجر. يحذرون من إنقراضها. لا أحد يتذكر الهنود الحمر. المطر الغزير يغسل الدم عن
شوارع عمرها خمسمائة عام. كانوا يصدرون الدم و البوليس
إلى ما وراء البحر ليستوردوا العبيد و الذهب و البهارات. يخصصون وقتا للشاي. لا أشرب القهوة في ستاربوكس. أصنع
القهوة الإيطالية في البيت. تنفذ سجائري. أتناول جرعتي من النيكوتين عبر سيجارة إليكترونية. صغيرتي تحفظ جدول الضرب بدون أن تُضرب ببرابيج مدرسات
الوكالة. تتابع
المسلسلات السورية و الرسوم المتحركة على اليوتيوب. مسلسل الموت و اللجوء السوري
يثير ضجري. المومس تستيقظ من موتها بعد شنقها لينجو جنينها. هاري بوتر ولد في هذا المقهى. أذهب الى البار الذي
يحتسي فيه الأطباء و طلبة الطب البيرة و الويسكي.
بالأمس هناك؛ أقرأ فوكو و بوكوفسكي بعدما
كنت أخجل من قراءة ما كتبه جان جينبية عن عجلون و شاتيلا. المثلييون يرسمون أقواس قزح
على الغيوم . أبحث عن الشمس و عن الأيام الدافئة في النشرة الجوية. أشتري كتاب لويزا واه " قابلوني في غزة".
(2)
توزعني المطارات على المطارات, و الحواجز على الحواجز, و المعابر على المعابر, و نقاط التفتتيش على نقاط التفتيش.
يعود الزمن ثلاثين عاما للوراء. تذكرني فرانكفورت بموسكو. أعوض سهري بالنوم على مقاعد
الإنتظار في المطار.
يستوقفني رجل الأمن. يفتش في
وثائق سفرنا عن دمنا وعن ركام بيوتنا. يطلب تأشيرة الدخول المنفصلة
عن وثيقة السفر. يستفسر عن سبب القدوم. يستودع التأشيرة. الحيرة و الخجل تختلطان بنبرة صوته الجادة. يسأل زميله ذو الرتبة الأعلى. ينصاع لأوامره. يضع ختم الدخول على وثائقنا. يضيف إلى الختم " للمرورثلاثة أيام". تتسائل طفلتي: "لماذا لا يحبوننا يا أبى"؟. تتعثر إجابتي و تتأخر. تلح الصغيرة في السؤال. أبحث في مدينتنا الصغيرة عن
سبب و في فردوسنا المفقود عن مبرر. أرتبك. أستجيب لألحاح الصغيرة: " لأننا الأفضل يا حبيبتي. لأننا من غزة. لأن فلسطين لدينا بلا إضافات. لم يسمحوا لنا أن
نُزور وثيقة سفرنا و حين لم ترضهم هويتنا مسحوها و حولونا إلى أشلاء".
نمضي ثلاثة أيامِ في مدينة بلا روح و بلا
أشباح , مدينة تشتبك فيها الدنيا لتتحد, تتعانق فيها أزمات المحيط
لتنتج دولة و أمةَ و عرشا.
المؤسسة. أه من المؤسسة. الهوية صارت لديها بطاقة للإعاشة. يافا أضحت مخيماً. بيادر القمح صارت أكياس طحين. أعادت تدوير مراكب الصيد إلى
السردين المعلب في جبل طارق. تمنحني المؤسسة
تسهيلاتها اللوجيستية و رسوم الدراسة مقابل الظلم الوظيفي و
برابيج "المتغطرس الأكبر". تتوسط لنا بالحصول على تصريح
للدخول إلى الجنة. أغامر بالعبور بدون إمتيازات الفي أي بي
على الجسر. يكلفني الأمر وقتا و أعصابا منهكة. أنتظر السماح بالمرور. أتأمل مشية الضباط و العساكر بزي وزارة الداخلية. يذكرونني بالمتغطرس الأكبر. يتلذذون في الحفاظ على
انتظام الطوابير. أشعر أنني سجين مع وقف التنفيذ. أكسب نصف راتبي الشهري مقابل الإنتظار و القلق أربع ساعات.
توزعنا المعابر على المعابر و الحواجز على
الحواجز. من صفر صفر حتى خمسة خمسة. يحاكي عسس المقاومة أمن
الإحتلال بورقة صغيرة مترجمة إلى الضاد من لغة
أليعيزر بن يهودا . يحاولون انتحال السيادة. الحلابات تقودنا إلى الحلابات. نخرج من الوطن المحتل إلى
الوطن المحاصر. من عبق الياسمين إلى رائحة الجسد البشري. من الفردوس المفقود إلى الجنة
الموعودة.
(3)
يطالعني كل بؤس
العالم مركزا في مدينة تتوشح بالاسمنت و الغبار. تشق سيارة المؤسسة طريقها في
أزقة ضيقة. تتلاشى الفوارق بين القرية و المدينة و المخيم. المشاة و الحمير و السيارات تتنافس على ملكية الشوارع. أدخل
شقتي لأجد جيناتي في إنتظاري مسترخية على كرسى. يعانقني دمي و هو في العقد
الثامن. يتبادل ظلى أطراف الحديث مع جسدي. ينام ظلى متعبا من شدة النعاس. يغادرني جسدي في منامي, تاركاً لى خبزا و زيتا و فواكه.
الأن هنا. أخرج مصافحا المدينة بلا عناق , بلا حب و بدون كراهية. أستعيد هويتي التي تنتجها الشركات. أستقبل زواري القلائل. أعود إلى عملى بروح البدايات الجميلة لأرتطم بعمر النكبة جاثماً
على صدر مركز صحي. أسترخي بعيدا عن التكنولوجيا.
الأن هنا. يقودني الحنين إلى الأنين. حرارة الجو تتفاعل بسهولة مع
كيمياء الدم. الفلفل الأسمر يمشي متخايلا في الشرايين. الهوية تمنح الأدرنالين قفزاته. تداهمني الذكريات. ترميني إلى أسماك القرش. تمضغني. تلفظني منهكاً إلى شواطئ
المجهول. أسمع لعجوز: " قلبي كله صدا؛ ما بحبش حدا". أتأمل في الصدأ الذي تراكم على قلبي.
الأن هنا. أهرب من مياه البحر الخارجة من الحنفية لتفاجئني الماء التي توزعها
الشركات الصغيرة بطعم الصدأ. أهرب من بيت بلا كهرباء إلى
البحر لأستنشق رائحة المجاري.
الأن هنا. ما زال الصبار ينمو على جدران المدينة. يدفعني صوت الزنانات إلى
إنتظار موعد الحرب القادمة؛ عتمة الليل إلى إنتظار أي تحسن في جدول التيار
الكهربائي؛ و اَذان الفجر إلى إنتظار القيامة.
الاَن هنا. يتحول محدودو المواهب إلى قادة أنجي أوز. تزدحم الفصائل بالقادة. الجماهير تذهب في إجازة غير
مدفوعة الأجر. يعمل خريج السجن الباريسي في
منظمة إغاثة إنسانية فرنسية. المنظمة الدولية تحول عامل
النظافة في كوبات حوليم و التمرجي في تشعاريت تسيديك إلى منسقين لخروج المرضى عبر
إيريز. الحواة و السحرة يتحولون إلى قادة مجتمع و نخب و مفكرين. كان جديرا بهم أن يجدوا لهم مكانا في الرويال مايل لييستعرضوا
مهاراتهم الأكروباتية و ليجمعوا القطع المعدنية في قبعاتهم. لا بأس لو أرسلوا طلبات توظيف إلي السيرك الروسي.
الاَن هنا. يتقاعد المعنى عن وظيفته العامة, و يعتزل الأمل مهمته الثورية, و يغرق الشعر في الخطابة اليومية.
الأن هنا. يستيقظ إدوارد سعيد من قبره في
منامي. يذكرني بفوائد المنفى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق