11‏/05‏/2019

الطريق إلى بورت بيتروفسك


الطريق إلى بورت بيتروفسك
(1)    
أنا ذاهب هناك. أسافر في زمان لم يعد لي. أبحر في الذكريات. أختبر طاعة اللغة. أطوي ثلاثة عقود و نيف كما يطوي طفل صغير كتابه المدرسي قبل موعد الإمتحان. أنطر إلى نفسي في المرأة. تحولت كثيراً. أنظر إلى الداخل. أنا كما أنا.
أمشى إلى ساحة التاكسيات. أشتري جريدة القدس. أجلس في المقعد الأمامي لسيارة المرسيدس التي ستتوجه إلى القدس. سأستقل سيارة أخرى إلى نابلس من القدس. عقدت العزم على التسجيل في قسم الهندسة المعمارية في جامعة النجاح, بعدما لم أجد إسمي في الدفعة الأولى للمقبولين في في قسم الهندسة المدنية في بيرزيت. يبدو أن نتائج التوجيهي في غزة الذي ظهرت بعد مثيلاتها في الضفة كانت السبب. كنت قد قدمت طلبا للإلتحاق و  جلست لأمتحان قدرات في اللغة الأنجليزية و الرياضيات و الخيارات المنطقية الرياضية . خشىت  أن يكون أدائي في إمتحان القدرات هو العائق فنتيجتي في التوجيهي كانت أكثر من مطمئنة.
والدي يصاحبني كظلي الثقيل إلى جامعة بيرزيت. الطلاب ممشوقي القوام. يلاحقونني ببشرتهم البيضاء و الزغب الذي ينبت على وجوههم. يتحدثون عن سكن الطلبة. الحياة الجامعية. المجموع المطلوب للإلتحاق بالكليات و التخصصات. يعرفون أنني من غزة. يحسبني أنصار الكتلة عليهم. أظفر بالصمت و بالمجاملات التي لا أجيدها. يحاصرهم والدي بالأسئلة. أتضايق من عودة والدي 26 عاماً إلى الخلف. أتضايق من ظلى. يمارس السياحة في الزمان و يعود إلى عمري. يحاصرني ظله. حركاتي و ملامح وجهي تفصح عن نفوري و إمتعاضي. أشعر  أنني لم أخرج بعد  من القفص. ما زلت كما أنا . الطفل الصغير الذي يقوده والده إلى المدرسة الثانوية, يقوده الأن إلى الجامعة. أشعر بوطأة " الحب القاسي".
بعد أن أنهيت المدرسة الإعدادية , إصطحبني والدي للتسجيل في المدرسة الثانوية. مشينا إلى ساحة التاكسيات على أقدامنا برفقة إثنين أو أكثر من إخوتي. أستقلينا سيارة أجرة إلى مدرسة يافا. كان والدي فخوراً بي و بمجموعي العالي. إختار أن يسجلني في المدرسة التي أصبح صديقه ناظرها مؤخراً. أستقبلنا الناظر الجديد في غرفة صغيرة, أظنها كانت لسكرتير المدرسة. الصيف يزيد من تصبب العرق من بين مسامات جلدي. يتضاعف إحساسي أنني ما زلت طفلاً. يطلب مني الناظر أن أحضر قايش. لم أكن أعرف أن القايش هو رباط يستخدم للملمة الأرواق في الملف. أذهب بحثاً عن القايش الذي لا أعرف ما هو. أعود أدراجي بدونه. أواظب على خجلى أمام ناظر المدرسة ذو الوجة الأحمر, كما أواظب على خجلى من قلة حيلتي و من سياطات الصباحات التي كانت تطاردني.
أدخل إلى قاعة إمتحان القدرات في اللغة الإنجليزية و الرياضيات و الخيارات المنطقية. لم يشفع لى مجموعي العالي في التوجيهي بأن لا ألتحق بالإختبار. أبرز بطاقة هويتي الزرقاء. أكتشف أن بطاقات هوية أبناء الضفة الغربية تتنوع ألوانا مختلفةً عن بطاقاتنا في غزة. أنكب على إجابة الأسئلة متعددة الخيارات. مبنى عمر العقاد. أتذكر مخرج فيلم الرسالة. أختلس النظر عير النوافذ الزجاجية إلى الصخور. كان المبنى يجثم عاليا على كتلة منها. لم يكن الإمتحان صعباً. كان بحاجة إلى قدر من التركيز. كانت قدماى مضغوطتان في حذاء ضيق لأخي الذي يصغرني بعام و نصف. إهترأ حذائي و كان أى صندل كافيا للتسكع في شوارع غزة, بينما كان أقراني يكدحون في المصانع و المزارع الإسرائيلية. 
أخرج من قاعة الأمتحانات مبتهجاً. أطمئن أن قبولى في كلية الهندسة صار مضموناً. كانت الهندسة هي خياري الأول و الوحيد في هذه الجامعة التي نبتت بين الصخور. وضع موظف التسجيل الخيارات الأخرى بدون أن يستشرني. كان مجموعي العالي في التوجيهي عبئاً ثقيلاً على. كنت أتوقع أن أحصل على مجموع أعلى يؤهلني أن أكون في مصاف العشرة الأوائل في الثانوية العامة. لم تمنع خيبتي أن يكون مجموع علاماتي عبئاً. صار على أن أستجيب و أن أرضخ لرغبات أسرتي و المجتمع بأن أدرس الطب أو الهندسة و أن أتخلى عن إهتماماتي بالعلوم الإنسانية و بالرسم.
كنت كريشة في مهب الريح. لم أحدد أولوياتي. لم أعرف ماذا سأدرس. كان خالي الذي أنهي معهد تدريب المعلمين في رام الله قد إلتحق بجامعة النجاح في نابلس. كان يحثني أن ألتحق بقسم الهندسة المعمارية لديه. لم يكن هناك تخصصاً مماثلاً في بيرزيت , و من ناحية أخرى, سيكون ذلك خيارا وسطاً بين رغبتي في تطوير قدراتي في الرسم و  رغبات المجتمع و الأسرة في الطب و الهندسة.
سافرنا إلى نابلس بعد أن قدمت إمتحان المستوى في بيرزيت. كانت جامعة النجاح مجموعة من المباني , التي تشبه مباني المدارس الثانوية, تتوسطها كافتيريا و مجلات حائط. جذب إهتمامي مجلة تتحدث عن عملية فدائية في معلوت. لم أكن أعرف شيئا عن معلوت. تناولنا غذائنا في شقة يتشاركها أربعة طلاب. فرشوا الأرض بأوراق جريدة الطليعة التي لم يقرأها أحد. أضحي إبن مدرس المواد الإجتماعية عضواً في الحزب. رمى  به أنصار الكتلة الإسلامية  من الطوابق العليا  في إحدى المبارزات الإنتخابية. نجا بإعجوبة.  أصبح ممثل الحزب في الجامعة. تفرق شركاء الشقة  في مناصرة الفصائل: الكتلة, فتح أبو عمار , فتح أبو موسى, و اليسار. جمعتهم غزة في شقة واحدة في نابلس.
إستبقوني في نابلس و عادوا أدراجهم إلى غزة. كان على أن أقدم طلب الإلتحاق في اليوم التالي. ذهبنا إلى مقهى الهموز حيث تقدم المشروبات الساخنة و الأرجيلة. قدموا لى مختصراً عن نظام الدراسة, الكتل الطلابية,محترفي العمل الطلابي, التطوع, الدراسات الفلسطينية و الثقافية, سجن جنيد, و لا يبخلوا على بالحديث عن  كنافة العكر التي يلتهمها الفلاحيين صباحا و أهل المدينة بعد العصر.
أقدم أوراقي للجامعة. أمشي في شوارع المدينة. أستقل الحافلة. أشاهد السمرة و مساكنهم. المستوطنون يحتلون أعالي قمم الجبال. الجبهة الشعبية تغتال ظافر المصري. بنك القاهرة-عمان يفتتح مقراً في وسط البلد. قوات الإحتلال تقتحم بيوت الطلبة. أعود إلى غزة.
كان والدى راغبا بأن أدرس الطب. كان يريد أن أحقق حلمة عبرى. قدم أوراق طلب مقعد لدراسة الطب في الإتحاد السوفياتي. لم أكن متحمساً و لم أكن رافضاً لذلك. كان الإتحاد السوفياتي أحجية تختبئ خلف ستارٍ من الزجاج المبزر. أستدان والدى 600 دينارا أردنيا, و قدمها كرسوم لدراستي في الإتحاد السوفياتي, بينما كنت على مقاعد الدراسة لتقديم التوجيهي. إستعاروا كلمة تبرع من القاموس ليطمسوا كلمة " الرسوم" الغير مناسبة لشيء إسمه منحة. أبحرت مع والدي في تردده و عدم يقينه من جدوى الدراسة في عالم خارج الدنيا. صعقتنا تشرنوبيل.  زرنا الرجل ذو الشعر الأبيض. عرض علينا عددا من مجلة الكاتب. كل ما في نسخة الكاتب كان مخصصا للتخصصات المتاحة للأجانب في عالم ليس لهم. التخصصات مبوبة و محاطة بكودات رقمية كأنها مخصصة لإطلاق الصاروخ النووي الأول. من هندسة السكك الحديدية و البترول و صيانة المصاعد الكهربية مروراً بالتخصصات الطبية. قابلت إبن الرجل ذو الشعر الأبيض الذي قدم إلى غزة في عطلة الصيف. كان يرتدي قميصاً من الحرير و قلادة من الذهب, كأنه ينفي علاقته بالبروليتاريا و حزبها الطليعي. لم يفدني كثيراً عن جنة العمال و لا عن إمبراطورية الشر. بعد أن ظهرت نتائج الثانوية, قابلت أخرين. سردوا لى الحكايات عن البرد و الحمامات الجماعية و الفصائل المتشاحنة.
لم يصلنا أي شيء عن مصير طلب المنحة – المقعد. كان مصير طلبي مثل مصير طلبات  العشرات الذين تقدموا عبر الفصائل مرتبطاً بعوامل عدة لم أكن أعلم شيئاً عنها, لكن الأكيد ان العلاقة بين موسكو و تل أبيب لم تكن على خير ما يرام. كان ذلك سببا كافيا لأن يطول الإنتظار. جدي العجوز حينها قام بمبادرة منه بزيارة أحدهم مقرعأ إياه على طول الإنتظار مشيراً إلى الرسوم – التبرع يجب ألا يضيع في حال بداية العام الدراسي بدون الإلتحاق بالدراسة.
أتصفح جريدة القدس. الصفحة الأولى تزدحم بالتعازي. خبر عن تداعيات القبض على "بولارد" في واشنطن. أقلب الصفحة الأولى. إعلان يحتل ربع الصفحة الثالثة. جامعة بيرزيت. الدفعة الثانية للمقبولين. أشاهد رقمي 986 من المقبولين في كلية الهندسة المدنية. أتحسس الثمانين ديناراً, التي كنت سأدفعها لجامعة النجاح, في جيبي. أتعبط جريدة القدس. أخرج من سيارة المرسيدس ذات الركاب السبعة. أعتذر لسائق التاكسي بأن مخططاتي بالسفر إلى نابلس قد تغيرت.      
(2)       
يحملني هواء أيلول إلى البيت. أطير كريشة مع الريح. أجتاز ثلة من الجنود الرابضين على رصيف الأسفلت.  أعبر الشوارع الترابية إلى البيت. يسكنني البيت. أوغل في أحلام يقظتي. أحلم بالهروب من المدينة المحاطة بالصبار إلى مدينة تتدثر بالقماش المخملي. أحملق في رقمي المثبت في إعلان الجريدة.
( نص غير كامل ) 


ليست هناك تعليقات: