11‏/05‏/2019

صباح الخير ايها الحزن...


صباح الخير ايها الحزن...


اريد ان أودع هذا الحزن. اريد ان اشتاق لهذا الشعور باللاجدوى. اريد ان اتخلى عن اكتئابي و وسواسي القهري.


اريد من اتخلص من جرعات الادرينالين و السيروتينين الفائضة في دمي. اريد ان اجتث اشتياقي للسجائر و خوفي من الموت و خجلى من الحياة. اريد ان أبتعد عن "لاروتيني" اليومي و عادتي الأثيرة بشرب القهوة وقتما اشاء، و كيفما أشاء. اريد ان اشرب مشروبي الساخن في وقت محدد كما يفعل النبلاء في بريطانيا العظمى و في الروايات القديمة .


اريد ان اشرب البابونج أو اليانسون أو الميرمية أو الزهورات أو اي شيء ساخن مثلما بات يفعل المناضل القديم و عضو القيادة الوطنية الموحدة بعد أن أصيب باول جلطة قلبية بعد أوسلو, فاقلع عن تدخين السجائر، و استبدل الشاي و القهوة بمشروبات ساخنة لا تجلب التوتر، و استقال من فيصله السياسي , ليأخذ راتبه المعتبر من موسسة الا ن جي اوز , و ليرعى تجارة أولاده في الأراضي و العقارات, من خلال علاقاته التي كونها عبر تاريخه النضالي, و ليستمر في قراءة الجرائد اليومية و الإفتاء في الشأن العام.


اريد ان أتوقف عن الاهتمام المَرَضي بالأخبار القادمة من البلاد التى تسكنني. اريد ان البس هذه البلاد وقتما اشاء و اخلعها وقتما اشاء كما افعل مع ساعة اليد .


اريد ان اتخلص عن وسواسي القهري بمتابعة الانتخابات الاسرائيلية و انتخابات مجلس طلاب بيرزيت و ربيع الجزائر و صيف الخرطوم .


اريد ان أتوقف عن تحديث صفحة موقع الانترنيت الاخباري , بين كل فينة و أخرى بعد منتصف الليل لاعرف أن كان تحالف التجمع و الإسلامية قد اجتاز نسبة الحسم ام لا، بالرغم من اني لم اكن يوما من المعجبين بالاسلامية, لا الشمالية و لا الجنوبية, و لم اعد مهتما منذ أن غادر مؤسسه البلاد, لا بالتجمع و لا بالوعد الذي مثله عند اطلاقه ، و بالرغم من اني لم اعد متأكدا من جدوى و لا من ضرر المشاركة في الانتخابات الاسرائيلية أو من مقاطعتها.


اريد ان أتوقف عن الشلل يوم النكبة و يوم الارض ، و انا اتابع صور المحتشدين على السلك و الشهداء و الجرحى على الفيس البوك، لاعيد نشرها على التويتر، بالرغم من اني لم اكن يوما من المؤيدين لمسيرات العودة و فك الحصار.


اريد ان امنع الغدد الدمعية عن الإفراط في افرازاتها و أنا أفرط في الحنين . اريد ان امنع جفوني من الغرق في الدموع، و أنا أتذكر هزائمي المتكررة و رفاقي الاوغاد الخونة. اريد ان امنع جفوني من الفيضان بعد أن تجاوزت الخمسين من العمر, فهذا عيب على رجل في بلاد يقاس فيها منسوب الرجولة بالملح, و هذا أمر مشين في بلاد يعتبر فيها الكذب ملح الرجال.


اريد ان اتحدث برزانة مثل ضيوف نشرات الأخبار و البرامج الحوارية الذين يتم الدفع لهم بالعملات الصعبة مقابل مشاركاتهم فيها . اريد ان اكون مقنعا للجميع مثل القائد السياسي الذي يأتينا بعد كل في حرب على غزة ليرفع شارات النصر مع إسماعيل هنية, بينما يشارك مع ابو مازن في اجتماعات اللجنة التنفيذية. اريد ان يتفق معي الجميع، بدلا من ان يختلف معي الجميع.


اريد... اريد....اريد ان انسى نفسي ... اريد ان انسى نفسي و لو قليلا... عفوا، اريد ان اتذكر نفسي و لو قليلا.... اريد ان اتذكر أن كل هذه المشاعر و الطقوس جعلتني على مدار السنين مثل الخرقة القديمة البالية التي يتجنبها الجميع؛ مثل الخرقة القديمة التي لا تنفع في أي شيء سوى في تنظيف بوتوغاز قديم في مطبخ قديم.


اريد ان انسى الماضي؛ أن اتجاهله قليلا، حتى استطيع أن أعيش حياتي الجديدة. اريد ان أتوقف عن ملاحقة معدلات وفيات الأطفال في غزة، لافهم الفوارق في معدلات الحياة المتوقعة على طول خط الاندرجراوند في جلاسكو. اريد ان انسي احلامي الصغيرة، احلامي التى طالما سعيت ورائها و أخفقت في الوصول إليها. اريد ان انسى احلامي الكبيرة، احلامي التي لا تغيب عني لالاحقها و لتلاحق بصري, لتبقى سرابا أسعى وراءه بلا كلل و لا ملل.


اريد ان انسى، اريد ان انسى لاحيا، لاجد خبزي اليومي، و فرحي اليومي، و حزني اليومي. لا اريد نبيذا معتقا ، و لا فرحا غامرا و لا حزنا غائما. اريد ان انسى، لاستطيع أن اتعاطف مع المشردين و الهومليس في البرنسيس ستريت في إدنبره . اريد ان انسى اللاجئين في جباليا و الشاطيء لافهم معاناة اللاجئين القادمين من ادلب و درعا و دوما و من البنجاب و كشمير و قندوز و شيراز و طهران. اريد ان انسى أصحاب الأطراف المبتورة في غزة لاترك متسعا لفهم اختلافات مؤشرات الصحة على طول "الجوبلاي لاين" في لندن، اريد ان انسي خلافاتي القديمة مع كل المقتنعين أن كل شيء على خير ما يرام في بلادنا الموبوءة بمقولة أن " القناعة كنز لا يفنى " ، لاترك فراغا صغيرا أو كبيرا يمكنني من فهم ما يحدث في الصحة الدولية و المدارية و الاستوائية ...


اليوم استيقظت صباحا لاكتشف أنني نسيت كل شيء. نسيت حزني المزمن، و افراحي الغير مكتملة، و احلامي المجهضة، و الشوارع الترابية التى كبرت وسطها ..نسيت صور الشهداء، و خيانات القادة، و خيبات الجماهير، و رثاثة البروليتاريا و وضاعة البرجوازية و خساسة المثقفين و بؤس الواقع.


اليوم صباحا، وجدت أنني تركت نفسي في البلاد التي تركتها. اليوم صباحا، تيقنت أنني أودعت نفسي في النسيان. أودعت نفسي في ثلاجة الواقع، فأصبح جسمي يفرز الادرينالين و السيروتينين و الكورتيزون و الاندورفين و التيستستيرون بحساب دقيق حسب الحاجة و الطلب. تخلصت من فوضي مشروباتي الغير كحولية . لم اعد اتابع الاخبار القادمة من الشرق الأوسط. تخلصت من عبء احلامي الكبيرة و نسيت احلامي الصغيرة. لم اعد اهتم بالاخبار العاجلة القادمة من السلك و لا من شارع الترانس في جباليا , و لا من موقع السبعطش في دير البلح. صارت كل الاخبار مثل نشرة الأخبار الجوية. صرت اشاهدها لاستثمرها في عملي.


انا الان اقوم بعملي بمهنية عالية، بدون ادني مشاعر. اراقب الفروق الطفيفة في المؤشرات الصحية. ادرس الظواهر بموضوعية تامة حسب المعرفة المحدودة التى امتلكها حول الموضوع المحدد. افعل تماما مثلما يفعل الخبراء الدولييون الذين يأتون إلى بلادنا متباهين بحياديتهم تجاه النزاع.


انا الان لم اعد اهتم بالمشردين في شوارع إدنبره و لا بالفوارق بين الناس لا في جلاسكو و لا في لندن. لم اعد اهتم باللاجئين من أحلامهم الى احلامهم، كل ما يهمني أن احصل على مكافأتي الشهرية و أن ارتقي في وظيفتي. انا الان قادر على شرب الزهورات بدلا من الشاي و القهوة مثل المناضل المخضرم الذي يشرب البابونج و ينتظر كل شهر راتبه الذي يتلقاه من المنظمة الغير حكومية مقابل قراءة الجرائد اليومية و إسهامه في الشأن العام .

 أنا الأن معطوب مثلكم جميعا, لكنني بدون شمس دافئة و أدرينالين زائد.

انا الان مثل الخبير الدولي الذي حدثته ذات يوم عن مفارقة إلحاق سيدة, تستخدم لولبا لمنع الحمل وضعه طبيب خاص في رحمها ، ببرنامج رعاية ما قبل الحمل في مركز صحي عمومي. انا اليوم محايد جدا و مهني فوق العادة مثل هذا الخبير الدولي الذي نصحني أن أترك كل هذه الترهات و أن أتعامل مع الفساد كفولكلور فلسطيني لا مفر منه.



ليست هناك تعليقات: