10‏/12‏/2018

أربع و عشرين ساعة في غزة.


الأخبار من دمشق الساعة السادسة و الربع صباحاً. بعد ربع ساعة الأخبار من أورشاليم القدس تملأ الفراغ الذي تركه أحمد سعيد. فؤاد المهندس يقول كلمتين و بس. "الدنيا هي الشابة و إنت الجدع" في إذاعة الشرق الأوسط من القاهرة. . صوت الراديو يقتل عصافير أول الشمس. تنافس ثمانية أشخاص على حمام واحد يغتال سكينة الصبح, رائحة النشادر المخففة تقضي على احتمال الياسمين. سياط الصباحات الباكرة يفسد الندى.
زهر الحنون الأصفر النابت على هامش أشجار السنط هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه الزهر جمالا في هذا الحي . تزحف غابة الأسمنت لتحتل بقايا بيارات البرتقال . " المجنونة " أحمر بلا رائحة يزين الأسمنت و مداخل البيوت. لا مكان للياسمين في حي يعبق برائحة قلى الفلافل صباحاَ. القريص ينمو أسفل أشجار ألأكاسيا التي تسييج البيارة المقابلة للمدرسة الابتدائية التي تغدو مدرسة تضم كل الصفوف حتى نهاية الثالث الإعدادي لاحقاَ.
المدرسة بساحتها الفسيحة و أشجار الكينيا تمنح المشهد نوعا من الجمال في مدينة فقيرة كدنا أن نختزل فيها الوطن. هنا لا شقائق نعمان و لا بلابل .الثانوية هي الطريق الطويلة و الجديدة بعيداً عن محيط البيت و الحارة. بعيداً عن مدارس الوكالة.
أخترق وسط المدينة و عيوني على أجساد الفتيات . تنانير الزي المدرسي بقماش الكاوبوي الأزرق , قصيرة أو طويلة , مفتوحة من الخلف أو مغلقة. مؤخرات تتمايل مع حركات الأقدام إلى الأمام. صدور نافرة أو منكمشة. وجوه الطالبات لا تخلو من الجمال في هذا العمر.
كان للثانوية أن تكون مرحلة جديدة, لكنها لم تكن. سياط الصباحات ما زال يلاحقني. تصميم بناية المدرسة الثانوية الحكومية تمنح المدرسة كآبة افتقدناها في مدارس الأنروا. قطعة من الأسمنت و الخرسانة محكمة الإغلاق. لا مكان لأشجار الكينيا في الفناء و لا للشمس في المبنى الإسمنتي . الطلبة يأتون من كل أحياء شرق المدينة. قدرتي على التأقلم محدودة . بقايا زملاء من المرحلة الإعدادية السابقة يغيثون وحدتي. أحاول أن أبقى صامتاً. الحيطان لها آذان تسمع. الخفافيش تعشعش داخل أسوار المدرسة الثانوية أثناء الإجازة. تتساقط أوراق منسوخة بالكربون أو على ورق ستناسيل من أعلى سطح بناية المدرسة. لجة يتبعها جرس المدرسة الذي يعلن مستعجلاً بداية يوم جديد.
****
مناحيم بيغين يستقيل قبل أن يتزحلق في الحمام. ياسر عرفات يعود إلى مخيم البداوي بعد خروجه من بيروت و طرده من دمشق. حركة التوحيد الإسلامي بقيادة الشيخ سعيد شعبان تطارد الشيوعيين في طرابلس. إسحق شامير يتسلم رئاسة الوزراء. طالب من أنصار المجمع الإسلامي يعتدي بسكين على مدرس الفيزياء الأحمر. يدعون أن وجهه يميل إلى الاحمرار من كثرة شربه للخمر و السجائر. أبو علي شاهين يقضي إقامته الجبرية في الدهينية. نمشي منتبهين في طريق عودتنا من المدرسة. كشك صغير لبيع السجائر و المطبوعات و أوراق اللوطو . ساحة التاكسيات تستضيف الجنود. موسيقى فرقة العاشقين تصدح عالية من بسطةٍ لبيع الكاسيتات : "اشهد يا عالم علينا و ع بيروت, إشهد ع الحرب الشعبية". ينقطع الغناء. صراخ الشيخ كشك يخرج من المسجل. أشعر بالتوجس من باعة الجرائد و أشرطة الكاسيت.
****
يخرج بعض الطلاب إلى الشارع. يشتعل الكاوتشوك. يلوذ الطلاب بمبنى المدرسة. كنت في الصف عندما اقتحم الجنود المدرسة. الأستاذ الذي تخرج حديثاً يقف وسط الصف بهيئته البهية. يدخل عسكري بسحنة حنطية و ملامح شرقية إلى غرفة الصف. ينظر إلى الطلاب كأنه يبحث عن فريسة. يتوجه إلى محمد الذي كان يجلس في المقعد القبل أخير في الصف الأوسط للمقاعد الخشبية. ينقض العسكري الضخم على محمد. يمسكه من الخلف. من ياقة قميصه. يدفعه بعنف إلى خارج الغرفة. يمتزج الصمت مع الخوف و الترقب. يدخل الجنود غرفة الصف المستباحة فرادى أو بالمثنى. ينظرون إلينا. يبحثون عن فريسة جديدة. يتقدم مني جندي. يطلب بطاقة هويتي. أخرجها من جيب قميصي حيث كانت ترقد. يصادر البطاقة و يأمرني أن أذهب . لا أعرف إلى أين أذهب. أخرج من غرفة الصف. أمشي في الكاريدور المظلم الذي يفضي إلى الصفوف. جنود يمسكون بعض الطلاب و يعنفونهم. أتذكر أحد أقاربي الذي كان يسمى نفسه أبو لهب عندما اخذوه من المدرسة و احتجزوه يوما كاملاً ليتلقى الضربات بالهراوات على رأسه. جنود يتخايلون في الممر. طلاب يذهبون إلى سبيلهم. أمشي خلفهم. أجد نفسي في فناء المدرسة.
****
سيارات عسكرية و جنود في فناء المدرسة. يداك على رأسك و رأسك للحائط و ركبتاتك تقرفصان على الأرض. تسمع صوت انفجار مكبوت خافت يتكرر بشكل رتيب. يقترب صوت الانفجار المكبوت منك. يقترب أكثر فأكثر. لا تسمع الصوت هذه المرة. الشلوط يهوي على مؤخرتك . تتوالى الركلات على مؤخرات زملائك المرتصين حتى أخر الطابور الممتد على جدران المدرسة الخارجية.
لحظات صمت. تسمع صوت توضيب البنادق. تتذكر ما سردته أمك عن أولائك الذين تم رشهم بالرصاص و أيديهم إلى الحائط عام 1956. لوحة غويا تتسلل خلسة إلى عيناك المحاصرتين بيداك المسنودتين إلى الحائط. يداهمك الرعب. تتسارع ضربات قلبك. تنصت إليها. يقطع هدير محركات السيارات صوت ضربات القلب المتسارعة. صوت الناظر المتماسك يصعد فجأة بلطف شديد" قوموا إقفوا ياشباب". لا تصدق نفسك. تتثاقل بالوقوف بعد طول القرفصة على الأرض و إسناد الأيدي التي كانت تحاصر العينيين إلى الجدار " المرشوق" بالشلختة . الساحة خلت من السيارات العسكرية. سيارة بيضاء يتيمة في ساحة المدرسة.
الناظر يقف مع عسكري في الخمسين من العمر و يتحدث معه. ينظر الناظر إليك و يؤشر نحوك و هو يتحدث مع العسكري الكهل. تتوجس. ترتبك. تتريث في المشي, و كأنك تنتظر أن يطلب منك الناظر التوجه نحوه. يفهم الناظر. يؤشر لك بالذهاب. تصعد إلى غرفة الصف. إعتقلوا محمد الذي صادوه من غرفة الصف, و تعرف أن صاحبك حسام قد أعتقل أيضاً مع أخرين. تفهم فيما بعد أن الناظر كان يتحدث مع الضابط عنك كنموذج لطلاب عوقبوا بشكل جماعي, و تفهم أنك و أكثر من أربعين طالبا من زملائك الذين لم يتم اعتقالهم يتوجب عليكم التوجه إلى مقر الحاكم العسكري في المجلس التشريعي لاستلام هوياتكم.
***
نخرج جماعات. أجد نفسي مع مجموعة لا تقل عن عشرة طلاب. نسير سوية مشيا على الأقدام. يتساءل بعضنا عما قد يحدث لو أوقفتنا إحدى دوريات الجيش , التي تجوب الشوارع, و سألتنا عن بطاقات هوياتنا. كانت إجابة أحدنا , أحد الطلاب مقنعة: سينقلوننا مجاناً إلى مقر الحاكم بجيب عسكري. كان أقصى ما يمكن أن يفعله الجنود و دورياتهم الراجلة عند توقيف أحد الشباب الذين يمشون في الشوارع و لم يرتاحوا لشكله هو أخذ بطاقة هويته , ضربه بضع ركلات و صفعه بضع صفعات على الوجه, و الترويح أحيانا عن أنفسهم بالإهانات و بالمزاح الثقيل, الطلب منه بمراجعة الحاكم العسكري. كم كان الجنود رحماء في تلك الأيام .
مشينا .. وصلنا إلى ساحة المجلس التشريعي, بعد أكثر من نصف ساعة من ترويض أرواحنا المرهقة بالمشي ومداواة قلقنا بتبادل أحاديث لا علاقة لها بالحدث, و كاننا نبعد عن أن أنفسنا شبهة القلق أو لأننا كنت نشك في بعضنا الأخر. كنا أخر دفعة من نحو أربعين طالباً تجمعوا في ساحة المجلس التشريعي.
يحضر أبو صبري , الضابط الإسرائيلي المعروف بتوغله في دهاليز المجتمع الغزي و لهجته الفلسطينية و الذي عرف لاحقاً بحكايته مع الشيخ أحمد ياسين. تجمع الطلاب حول أبو صبري, ينتقي مجموعة من الطلاب لا أدري على أي أساس. لكنني أعتقد أن ذلك تم بناء على قائمة كانت معه أو بناء على بطاقات الهوية التي كانت لديه. كنت بعيدا كعادتي. لم أفهم ما كان يجري تماماً.

• جماعة أبو عمار يجوا معي و جماعة أبو موسى يروحوا على الجوازات.

كانت سخريته موجعة. مشينا نحن اللذين لم نحظى بتتبع أبو صبري بضع دقائق إلى الجوازات.
***
دخلنا إلى الجوازات التي كان يحرسها الجنود. لم أنظر إلى وجوه الجنود. لم أكن أكره الجنود لكنني كنت أكره لون زييهم الخاكي العسكري, و بنادقهم , و ركلاتهم التي حطت على مؤخرتنا. جلسنا على مقعد طويل تحت معرش زينكو. كنا نحو دزينة أو أكثر أو أقل قليلا من طلاب المدرسة الثانوية. لم أكن أعرف أحداً منهم. كانوا جميعاً أكبر مني. كنت متوتراً بدون أن أظهر ذلك. كنت صامتاً بينما الأخرون يتحدثون و البعض يثرثر بشكل إستعراضي. إكتشفت مدى ضحالة تجربتي و سمعت جملاً و حكماً و أمثالاً لم أسمع عنها من قبل من أفواه أقران في سني أو يكبرونني قليلاً. خلدت إلى نفسي و إلى صمتي و حافظت على إجاباتي القصيرة. الموت مع الجماعة رحمة, كما صرح ذلك الذي يستعرض ثرثراته. الوقت يمضي بطيئاً. إنتظرنا أكثر من أربع ساعات. حان آذان العصر. لم يذهب أحد للصلاة, لا أعرف إن كان ذلك متاحاً , أم أنه زمن أخر. كان الموت و الحياة جماعةً أنداك هو عنوان المرحلة, بدلا من طقوس صلواتنا الجماعية التي نؤديها الأن بدون أدنى خشوع.
****
تدخل مقر الجوازات سيارة رينو بيضاء صغيرة.يخرج منها شاب أنيق بقميص أبيض و نظارات سوداء. يقوم بإزالة لوحتها الفضية لتظهر اللوحة الصفراء التي كانت تختفي تحتها. يبدو أنه قام بجولته في أحياء المدينة و شوارعها بدون أن يلتفت إليه أحد. قام بفك البراغي التي تثبت اللوحة الفضية بيده. حضور الشاب الثلاثيني أحدث جلبة في المكان. ننتظر. يبدأ نفس الشاب الثلاثيني باستجوابنا واحداً تلو الأخر. يأتي دوري. أمشي وسط ممر مرصوف بالأسمنت و محاط بالزهور و النباتات الخضراء القصيرة و بجنود بلا بنادق و لكن ببساطير أخاف من ركلاتها.
أدخل الغرفة الضيقة حيث يجلس نفس الشاب الثلاثيني الوسيم صاحب القميص الأبيض و النظارات السوداء, خلف مكتب صغير مستقر في مواجهة باب الغرفة. الغرفة تضج بفوضى عارمة. أجلس على كرسي في مواجهة الشاب بعد أن يشير لي بالجلوس. ملفات مكدسة يعلوها الغبار موضوعة على رفوف على يمين الشاب و على سطح المكتب الذي يجلس خلفه. إضاءة خافتة. باب مغلق على يسار الشاب. خردة. مصباح للقراءة على الرفوف. آله كاتبة مركونة على الرف يعلوها الغبار. غرفة مكتب مهجور لشاب يمارس عمل ميداني في حواري المدينة. كم أحب افوضى و الأماكن المغلقة.

أشعر بالكرة المطاطية المسمطة بين ضلوعي كما أشعر بها الأن و أنا أكتب. يذكر الضابط إسمى متسائلاً. أهز برأسي و أتبع ذلك بإجابة مقتضة بصوت مسموع. يعرف على نفسه باسمه الرمزي/ الحركي. هم أيضا لهم أبواتهم مثلنا. أبوموسى. يسألني عن تاريخ ميادي. أجبته. عن صفي. أجبته. عن إنتمائي السياسي. أجيبه بأن إنتمائي و ما يهمني هو دراستي. تتتابع الأسئلة عما كنت أفعله عندما الإطارات تشتعل في الشارع. أجيبه أنني لم أخرج من صفي طول الوقت. يسألني عن الذين يحرضون و يوزعوا المناشير. أجيبه بعدم المعرفة. يسالني عن مكان سكني. أجيبه. ثم يسترسل في الأسئلة عن مكان سكني بالضبط. كأنه يريد أن يقول لي أنه يعرف كل شبر في الحارة التي أسكن فيها و كل شيء عني. أشعر براحة عندما يقول أن على الحضور مجدداً الساعة العاشرة في صباح اليوم التالي. شعور بالراحة لأن المقابلة إنتهت, و بالخوف و القلق لأن بطاقة هويتي ما زالت لديهم فقد أصير مثل الخيط في المكوك متحركاً ذهاباً و إياباً بين أسرتي في البيت و أبوموسى في الجوازات. خرجت . كان النهار يوشك على الانتهاء. فكرت بمعرفته الدقيقة لمكان سكني. تذكرت أن رقم البيت مكتوب على بطاقة الهوية.
****
أعود إلى البيت. أنام ليلي. نوم متقطع لكنه جميل. أستيقظ صباحا. كسل لطيف بعيداً عن الدوام المدرسي. أذهب إلى الجوازات صباحاً. أجلس مع زملائي في نفس المعرش. لم تمضِ أكثر من نصف ساعة. يحضر عسكري ضخم البنية بسحنة سمراء. نقف عند حضوره و يسود الصمت. يلقى علينا " الطحان" خطبة عصماء قصيرة بلغة عربية متقنة بلهجةٍ مصرية. بيده مجموعة من بطاقات الهوية. يبدأ بمنادة أسماءنا واحداً تلو الأخر. أتقدم نحوه بعدما قرأ إسمي لأستلم بطاقة الهوية. سلمني الهوية بيده اليسرى و صفعني على خدي الأيسر بيده اليمنى. خرجت من مركز الجوازات. شعرت بالمدينة و كأنها خاوية و كذلك روحي.






05‏/12‏/2018

غصنا الزيتون و الكرة الأرضية


تخونني ذاكرتي. لم أعد أذكر إن كنت في صفي الثاني أم الثالث, لكنني متيقن أن المدرسة أصبحت, في ذلك العام, أكثر نصعه و بهاءً. أصبحت أكثر بياضاً.

نخرج من غرفة الصف إلى المعرش المسقوف بالإسبست. نتحرك بنشاط تحدده خيزرانة المدرس و نظراته الصارمة. ندخل المُعَرَشْ. نلتحق ببقايا الطلاب الذين سبقونا إليه . تنظم حركتنا الفواصل الحديدية المطلية باللون " الرسمي" , بالأزرق السماوي الصادم.


نتحرك. أتناول كوبا قديما و نظيفا من الألمونيوم. نصل إلى رجل يرتدي مريولاً أزرقاً غامقاً. يضع الرجل كمامات بيضاء على أنفه و فمه. أمسك كوبي بيدي اليمنى. أمد كوبي المعدني الفارغ نحوه. يملأ الرجل ذو الكمامات البيضاء الكوب بالسائل الأبيض. المدرس بشواربه الكثيفة يضع كبسولة زيت السمك في يدي اليسرى. أرتشف السائل. أشعر بالغثيان. أفرغ السائل الأبيض في أحشائي كمن يتناول شراب السعال الذي توزع عيادة الوكالة.

يسكب بعض أقراني السائل الأبيض على أرضية العرش. يغامرون بتلقي ضربات الخيزرانة على أجسادهم النحيلة. أسكب السائل في أحشائي. أواظب على الغثيان. أبتدع طريقة جديدة للتخلص من السائل الأبيض بدون أن أغامر باحتمال تلقي العقاب. أنظر حولي. أناول الكوب المملوءة بالشراب الأبيض لأول طالب حولي أنهى شرب كوبه. أستلم كوبه , الذي أفرغ محتواه في جوفه, مع كبسولة إضافية من زيت السمك.

يتكرر الموقف في الحصة الأولى من كل يوم. إعتاد على التخلص من السائل الأبيض, حتى يجيء اليوم الموعود.


نخرج من الغرفة المسقوفة بالباطون وراء مدرس الصف. نهرول خلف المدرس الذي تحين فرصة توقف زخات المطر. ندخل المعرش. ألاحظ الفوضى . ثمة لجةً و ازدحاما في المعرش. أرصد أنظار المدرس تتجه نحوي. لم أستطع مبادلة كوبي بكبسولة زيت سمك إضافية. أرتشف السائل الأبيض من الكوب المعدني . أشعر بالغثيان. أرغب بالتقيؤ. تتجه نظرات المدرس نحوي. إرتشف رشفة أخرى من السائل الملعون. يتحرك المدرس بعيدا عني. أصب السائل الأبيض على أرضية الغرفة المبللة بالوحل. أضع الكوب المعدني الفارغ في المكان المخصص. أتممت جريمتي الصغيرة بإتقان محكم. أشعر بنصر صغير.


أفكر في الموقف. أحتار كيف سأتصرف في اليوم التالي. أسأل نفسي إن كان أحداً قد وشى بي للمدرس. يمر اليوم التالي بدون أن يقودنا المدرس إلى المعرش. كان الجو ماطراَ. اعتبرت أن الشتاء كان هو المانع لاقتيادنا إلى المعرش .


تمر الأيام. يتوقف المطر . تشرق الشمس. لم نعد نذهب إلى غرفة الحليب. لا أعرف إن كانت لجان اللاجئين احتجت على إغلاق غرفة الحليب. لا أعرف إن كانت الصحافة تحدثت عن تقليص خدمات الأونروا . لم أشعر بنبوئتي عندما خلطت الحليب بالوحل الذي كسا أرضية المعرش. تحولت غرفة الحليب إلى غرفة للعلوم. مختبر صغير يحتوي على دوارق و مواد كيمياوية و سوائل ملونة.

تخلصت المدرسة الإبتدائية من واحدٍ من طقوسها المعتادة: الجرس. طابور الصباح. الفرصة. عصا الخيزران التي يلوح بها معلم الصف بشواربه التي تشبه شوارب أبو عنتر . السبورة السوداء . الطباشير البيضاء . الطباشير الملونة التي تظهر عندما يزورنا ضيف يجلس على كرسي موازٍ للمقعد الأخير في الصف. الدفاتر المزينة بالكرة الأرضية محاطة بغصني زيتون.

فقدنا كوب الحليب. استبدل المدرسون عصا الخيزران بالبرابيج المطاطية التي يطوونها في حقائبهم, حتى لا يتركوا أي أثر لاستخدام لعقاب البدني. فقدنا كوب الحليب و وجبة زيت السمك و ظل غصنا الزيتون يزينان الكرة الأرضية في شعار الوكالة بدون أن ننعم بهما.




الحياة فوق السحب الإليكترونية




نعبر سوية مشياً على أقدامنا  الحاجز العسكري الرازح في شارعٍ مكتظ بالسيارات و بالغبار. أتذكر معبر قلنديا و شارع عمر المختار في غزة في عز الصيف. ندخل في صالة واسعة  و مكيفة الهواء ذكرتني بقاعة الانتظار في الجانب الإسرائيلي من الجسر.  سرعان ما تهاوى جسده   بقامته القصيرة و كرشه  السمين على أرض  الصالة, عند رؤية للجنود. أشعر بخوفه و أكاد أن أسقط مثله على الأرض لكنني أتمالك نفسي و أحافظ على صلابة قدميَ على البلاط, الذي  كان يلمع كصلعة خالية من الشعر . أتذكر أنه يعاني من ألام مزمنة في الركبتين و في أسفل الظهر. أحاول أن  أسنده بكلتا يديي بدون جدوى.  أرتبك وأود أن أصرح للجنود بأنه يعاني من آلام الركب و الظهر. يقرأ الجنود أفكاري و يغيثونني في إسناده. أمد يدي ببطاقتي هويتنا لجندي, يستنكف عن تناولهما و عن التدقيق فيهما, و يوشر لنا  بود أن نعبر إلى بوابة الخروج من الصالة.


نخرج سوية إلى الشارع الخالي من المارة, و ندخل إلى صيدلية لم يكن فيها إلا الصيدلي المناوب. أطلب من الصيدلي أن يحقنه بإبرة في عضل مؤخرته لتسكن آلامه. يطلب من مرافقي أن يتمدد على سرير للفحص و أن ينظر باتجاه الحائط الذي كان يستند إليه سرير الفحص . يسحب سائل المسكن من أمبول زجاجي و يتلذذ بإخراج فقاعات الهواء من السيرينج. أستغرب من أن سن الابرة المتصلة بالسيرينج هي سنٍ معدني لقلم حبر جٍل غليظ  . يحقن الصيدلاني   صاحبي بالإبرة الغليظة. يخرج الإبرة و يطرد  الفقاعات بعناية و حذر  من السيرينج. يعود الكرة ليحقنه مرة ثانية ثم يخرج الإبرة من مؤخرته  و يخرج الفقاعات بحذر. يعيد الكرة خمسة مرات متتالية, يحقن بالإبرة الغليظة و يخرج الإبرة من العضل و يفرغ السيرينج من فقاعات الهواء بحذر, و هكذا دواليك لخمس مرات.

 أشعر بحنق شديد لكنني ألتزم الصمت معولا على رباط جأش صاحبي .ينهض صاحبي عن سرير الفحص بدون أدنى شكوى من تكرار حقن عجيزته بالمسكن لخمس مرات متتالية. أسأل الصيدلاني عن التكاليف التي يتوجب أن أدفعهما مقابل حقنة المسكن. يجيب بهدوء و حياد  أن التكاليف هي خمسة و ثلاثون شيكلاً. أرد عليه بحنق أن تكاليف مثل هكذا حقنة  في غزة لا تتجاوز الخمسة  أو السبعة شواكل في أسوأ الأحوال؛ فيجيبني  بلهجة غزاوية مغلظة: إنت ياخو في رام الله ميش في غزة و الأسعار هان زي مانهاتن. أفكر بألا أدفع للصيدلاني  مقابل الحقنة أو حتى  أن أعاركه, لكنني أعرض عن ذلك و أناوله قطعة نقدية معدنية من فئة الخمسة و الثلاثين شيكل.

نخرج أنا و صاحبي من الصيدلية. إلى الشارع الخالي من المارة.  أشعر بمرارة في حلقي و أنهض من سريري. أذهب إلى جهاز اللابتوب. الساعة تمام الرابعة و النصف صباحاً. أبدأ باستعادة بعض من  الملفات التي قمت بحذفها بالخطأ  من الوون درايف قبل أكثر من أسبوع بدون أن أستطيع أن أستعيد إلا النذر اليسير منها من سلة المهملات. كنت قد نقلت  كل الملفات التي خزنتها على جهاز كومبيوتري خلال ثلاثة عشر عاما على الوون درايف قبل أن أغادر غزة حيث أن الإسرائيلين منعوني  مثل كل المغادرين من  إخراج اللابتوب أو أي جهاز إليكتروني عند خروجي عبر معبر إيريز قبل أكثر من ثماني شهور.



العيد




 أصلى مع جدي صلاة الفجر بالشورت في رمضان . أعود برفقته إلى البيت. أطرد نعاس الصبح من عيوني الصغيرة. يطير الوقت سريعاً. أخرج برفقة إثنين أو ثلاثة من أقراني. نعبر الشارع إلى قطعة أرض واسعة كانوا يزرعونها في موسمٍ بالخس, و في موسمٍ أخر بالقمح. لم تكن قطعة الأرض تلك قد تحولت بعد إلى مصب لتجميع مياه الأمطار القادمة من كل أنحاء المدينة. نطير لنصل إلى شارع البساتين. تحمل أيادينا الصغيرة مرواح ملونة و رقيقة. نتحرك بسرعة. نجري. نترك أجسادنا للريح. تلوح أيادينا بالمرواح البلاستيكية الصغيرة في وجه الريح. تتحول مخالب المراوح الصغيرة إلى دوائر ملونة. نحلق في الهواء كالفراشات الملونة.

أعود للبيت و أغط في نومي. أستيقظ بعد الظهر و أقنع نفسي بانني ما زلت صائماً. و ما زلت أقنع نفسي بأنني بدأت بالصوم في سن السادسة. و ها أنا أعترف أنني كنت أسرق الطعام من الثلاجة و الماء من الحنفية و من المضمضة عند الوضوء.

يتوهون أو نتوه سويةً في شوارع المدنية الرملية. يختفي الوجه الذي ترسمه عن ورق الدفتر المدرسي بصحن مدور و حبتين من البندورة و خيارة أو قرن فلفل و قشرة بطيخ صغيرة؛ تعبر الجسرَ مع طفليها لتلحق بوالدهم الذي خرج للتو من السجن لتغيب عشرين عاماً في الذكريات, و ترجع عمتي لعشرين عاماً من الذكريات إلى الحكاية التي تتركها مرة أخرى لتمكث في الذكريات. مع غيابها الأول تغيب الطفولة, أو تبدأ, لتؤثث الذكريات, وتبقى هي فاكهةً نادرةً كالأعياد, لترصع سماء الطفولةِ بالذكريات.

تبدأ الطفولة, أو تنتهي , عندما تموت جدتي, و يبدأ العيد بالانبلاج من الذكريات. نزور ضريحها محملين بالتين المجفف و بالحلوى و بالدعاء. يقرأ جدي ما تيسر له من السور و يعطي المقرئيين ما تيسر له من نقود. بعد عامين أو ثلاثة يسمع عن خطيئة زيارة القبور, فيتجنب الضريح و يمارس عشقه بتناول التين المجفف مع زيت الزيتون كوصفة ألطف من الملح الأنجليزي.

أتذكر ظلال العيد. راحة من الدوام المدرسي. ملابس جديدة إن أتيحت. نقود العيدية. مراجيح من خشب سقالات البناء. الله أكبر كبيراً و سبحان الله بكرة و أصيلاً. الرئيس المؤمن يصلى صلاة العيد خلف عكرمة صبري في القدس. نأكل السمك المملح و نلاحظ خلافات طفيفة بين العواصم في رؤية الهلال . العقيد يذهب بطرابلس أياماً كثيرةً بعيداً, شرقاً و غرباً. أختلس قطع الطوفي و ملبس اللوز من غرفة الضيوف على دفعات متباعدة حتى لا يلحظ أحد سرقاتي الصغيرة. مشوار طويل إلى منتزه البلدية. مشاريع سحرة و لاعبو ورق و نصابون و بائعو حلوى و بلالين يجذبون العيدية من جيوب الأولاد و البنات إلى جيوبهم. تكتشف أمي أن ذخيرتها من طوفي الجامين البنفسجية و من ملبس اللوز أوشكت على النفاذ.



أربع ساعات في فلسطين



قبل سته سنوات زرت فلسطين التي أحب. فلسطين التي لا  أعرف. فلسطين التي تعرفني و أعرفها جيداً.

في الصباح خرجنا عبر معبر رفح. شقت الحافلة طريقها في الصحراء التي  أصبحت مريبة. بدو و قطاع طرق وجيش عبر خط بارليف ليثبت وجوده الرمزي على كثبان الرمل. هللنا و ارتحنا   قليلاً عندما عبرنا الجسر الذي يعبر فوق القناة. وصلنا إلى أم الدنيا. الدنيا تغيرت بعد مليونيات ميدان التحرير قبل عام و نيف. وصلنا في الليل إلى فندق  بنجوم سبعة. غالبني النعاس. قضينا ليلتين في القاهرة . حطت  طائرتنا  على مدرج يخرج لسانه للعالم من البحر المتوسط. رفض ضباط المطار  و ضع الأختام على وثيقة سفرنا الفلسطينية. أخذوا تصاريح الزيارة. ملأنا  نموذج رسمي من الورق المقوى وسموه بالختم الرسمي. الحافلات الصغيرة انتظرتنا لتقلنا إلى نزل أنيق في وسط  العاصمة. أستخرج أسماء الشوارع  من ذاكرتي و لا أتقن سوى التيه فيها. أبعث برسالة عبر الإنترنت لصاحبي الذي لم أراه لعشرين عاماً.

نخرج في رحلة إلى المغارات و البحر و الجبل. نتناول الإفطار. يسألوننا عن الحرب و الحصار و لا تتوقف  العجوزة الإيطالية الشقراء  عن نفث دخان سجائرها في وجوهنا و عن حديثها  الذي لا ينتهي عن الفوسفور الأبيض. نشارك في  المؤتمر الذي جئنا إليه. نضحك من ملأ أشداقنا على نوادر  أستاذ الجامعة الذي تزوج ثلاثة من زميلاته. يجيئني صاحبي محملاً بغياب عشرين عاما. يمر بصعوبة بين اختناقات المرور. يتصل أكثر من مرة ليحدد بالضبط المكان الذي أقيم فيه. أخبره أنني سأنتظره على مدخل الفندق. ألمح سيارة تتوقف بالقرب من المدخل. يخرج من البي أم دبليو. جسده الضخم يشق طريقه تجاهي برشاقة سهم . نتعانق. أنظر إلى وجهه. أتذكر على أبو طوق. أنظر إلى وجهه لكن لا شيء فيه يشبه علي أبو طوق. يغزو وجه علي أبو طوق عيني. أخذ صاحبي و  نجلس في البهو . نشرب القهوة و نستجمع الذكريات و أسماء الرفاق القدامى. أقترح عليه أن نقضي المساء في المدينة. نستقل السيارة. ينفث السجائر و يتأفف من الطرق المسدودة. يتحدث عن المدينة و عن الشهداء. مقبرة الشهداء. ضريح الشهداء. العمارات التي لم تدمرها القنابل العنقودية أكلها الزمن لتبدو كصور قديمة ملونة بالأصفر. المدينة الرياضية. الملعب البلدي. تنساب السيارة بعفوية في الشوارع. يؤشر إلى الطريق المؤدي إلى مستشفى حيفا و يستمر في سرد الحكايات.

يأخذنا إلى المخيم. نمر بالسوق الشعبي لفقراء العاصمة. لديه بيت في المخيم و أخر على أطرافه و لديه سيارتان. هو الذي لا يحمل ترخيصاً لممارسة الطب في البلد يعالج فقراء العاصمة في المخيم و في مغارات الجنوب.  نمر بالشوارع الواسعة في المخيم. بالكاد تتسع الشوارع الواسعة لعرض سيارة واحدة تمشي ببطء في إتجاه واحد. نمر بحواجز الفصائل. صورة الديكتاتور المرسومة  على جدران  الحاجز تفقأ عيني. ملصقات. فتح. الصاعقة. صور  لياسر عرفات.. جهاد جبريل. أبوعلي مصطفى.  مطر آذار لم يجف عن الشوارع.  يركن سيارته في ساحة صغيرة تتوسط الأزقة. نخرج بأجسادنا من الفولاذ. نقحم أجسادنا في غابة إسمنتية صغيرة. نخفض رؤوسنا لأسلاك الكهرباء التي تتعانق مع خراطيم المياه. نرفع رؤوسنا للسماء. لا سماء فوقنا. الأسمنت يعلو فوق كل شيء. أتذكر مخيم الشاطيء. التشابه لا يخفى الاختلاف. أتذكر معسكر ديرالبلح. نمشي. نفس الأطفال و الملابس و العيون. الأزقة بقيت على حالها و الغرف صعدت إلى السماء في إسمنت معلب.

نتوقف في عيادة صاحبي  الفارغة إلا من المرضى القلائل الذين جاءوا ليراجعوا أخيه الطبيب الآخر فيها. أتعرف عليه. و نجلس. أسأله عن صاحبنا الدمث القديم. يطلب من أخيه أن يأتي به. نشرب الشاي. يأتي صاحبنا القديم. أعانقه. صوته كما هو لكن شيئاً ما أكسبه المزيد من الحياد و اللامبالاة.  نتحدث عن ذكرياتنا القديمة و أعمالنا الراهنة. يطل  غسان كنفاني كعادته من  وجه صاحبي القديم. أتساءل إن كان غسان قد بعث حياً ليصاب بالاكتئاب بعد أن شفي من السيارة المفخخة و من داء السكري. نخرج من العيادة بعد أقل من ساعة و نصف في المخيم. أسأل صاحبي لماذا لم يأخذني لنتجول في العاصمة . يجيبني أنه لا يعرفها فهو لا يعرف سوى المخيم و لا يأتي لبيروت إلا في حال قدوم  أصحاب مثلنا إلى العاصمة أو عندما يزوره أقاربه من الدانمارك ليتجول بهم في باريس الشرق. نقحم أجسادنا في الزواريب التي تسمى شوارع.  أتذكر مخيم جباليا. أبحث عن الفرق و التشابه. بعيداً عن قواعد الفدائيين شرق الأردن  عن جسد آسره  الملتصق به, يخرج جان جينيه من أزقة المخيم مع الدم و الجثث و الذباب ليذكرني بساعاته الأربع في شاتيلا, فأرى فلسطين التي تشبهنا. أرى فلسطين التي لا تشبه إلا نفسها. و أظل أتوق لشاتيلا.



كوابيس ملوثة الهواء

أتذكر عندما كان يأتيني صياح  بائع الكلور نهاراً بدون أن أفتح الشباك: كلور .... كلور ... كلور

بائع البطيخ يدلل على بضاعته  بالميكروفون في وضح النهار: بطيخ ... بطيخ .. أحمر ع السكين..

أذهب إلى فراشي بعد يوم من الكوابيس اليومية خفيفة و ثقيلة الظل.

أذهب إلى فراشي: كوابيس ... كوابيس.. كوابيس...

معلمة المدرسة تقلد طلابها في الإذاعة المدرسية.. معلمة المدرسة تقلد نفسها في طابور الصباح... معلمة المدرسة بمريول أبيض... معلمة المدرسة تدير المهرجان الخطابي.. معلمة المدرسة تنقب في الكتب عن قصائد الشعر.. معلمة المدرسة تحاصر مدير التعليم بالمديح... معلمة المدرسة تصبح مديرة معهد تدريب المعلمات.. أرفض ارتداء المريول الأبيض في معهد تدريب المعلمات... تنظر إلي مديرة معهد تدريب المعلمات, أنظر إليها بدون أدنى اكتراث...

 لا أريد لهذا الكابوس أن ينتهي...

أريد لهذا الكابوس أن ينتهي ...  

طفلتي الصغيرة تلعب فوق سطح دارنا مع جندي إسرائيلي.
كابوس ثقيل الدم..

أصحو من النوم...

أنقذ الطبيب الذي توفي قبل ست سنوات من موتٍ محقق بشربة ماء.. والدي سقيم ... نحمله أنا و أخوتي  من الطابق الرابع إلى الطابق الأرضي.. ندخل إلى ورشة تصليح السيارات.. الطبيب الذي توفي قبل ست سنوات في الورشة بمريوله الأبيض المتسخ بلون زيت تشحيم السيارات... يداهمني عطش شديد..  أذهب إلى الحنفية لشرب الماء...

أتصل بوالدي ... والدي يرقد في المستشفى منذ يومين..

التوجيهي هو كابوسي المزمن.. مرة, أقرر إعادة التوجيهي لأحصل على مجموع أعلى... أخرى, السنة الأخيرة في المدرسة. تمر السنة بدون أدنى استعداد... أكتشف أنني حصدت مجموعاً أحسد عليه قبل سنوات..

والدتي تبتسم .. والدتي قوية كالعادة..

أستيقظ من النوم مسروراً بفعل ابتسامة  والدتي. أكتشف أن والدتي في المستشفى.. والدتي قوية كالعادة.

مدرعات إسرائيلية أو حاملات جنود بالكاكي, الملطخ بالوحل, تتمختر بأريحية في شارع النصر في غزة و كأنها تقوم برحلة سياحية.
أخرج من الفراش للتبول.. أطرد الكابوس و أستمر في النوم تحت الفراش ليلاحقني كابوس أخر... الصفعة على صدغي الأيسر..

 أخرج إلى الشاطئ,  فلا أجد ملابسي التي تركتها على الرمل قبل أن أذهب للسباحة في البحر.. أخرج من البحر مرتدياً ملابسي العليا... صاحبي يرفض طلبي بإحضار السروال. صاحبي النذل لم يظهر في الحلم... من ظهر كان صاحبي الصدوق...

كوابيس .. كوابيس مكيفة الهواء.. كوابيس بتدفئة مركزية...  كوابيس ساخنة ...  كوابيس تكاد أن تودي بك إلى سكتة قلبية. كوابيس .. كوابيس... كوابيس صور متحركة, تجعلك تتمنى أن تظل راقداً في فراشك. كوابيس سكوب ... بالألوان ... أبيض و أسود...  كوابيس مشبعة برطوبة الجو العالية... كوابيس بشيء من نكهة الحياة في غزة...



صيف غزة الطويل



تبدأ عطلة الصيف. يعود عمي و عائلته إلى غزة ليجدد تصريح زيارة زوجته و ليسجل أبنه الأخير في هويتها. يهديني عمي ساعة يد كاسيو إليكترونية مصنوعة من البلاستيك. كم فرحت بالساعة. كنت قد فقدت ساعة السيكو المعدنية التي أهداني إياها جدي , بعد أن وجد إسمي مكاناً له في لائحة شرف المتفوقين في امتحان إتمام الدراسة الابتدائية. وضعت الساعة بجوار حنفية المتوضأ في المسجد و نسيت أن أرتديها بعد الوضوء. عندما تذكرت الساعة بعد إداء الصلاة, عدت إلى المتوضئ و لم أجد الساعة. كذبت على نفسي و قلت أنهم سرقوها من بيت الله كما يسرقون أحذية المصلين. بدأت بالتكاسل عن الإكثار في التردد على المسجد . قلت قراءاتي لكتيبات عبد الله عزام و فتحي يكن الصغيرة التي كنت أستعيرها من مكتبة المسجد المتواضعة.


نذهب إلى شاطيء الشيخ عجلين. يحدثنا عمي عن طرطوس و جزيرة أرواد. أسند رأس أبنه الأصغر على كتفي بيد و أمسك يد الأكبر باليد الأخرى. يؤشر الأكبر إلى ثلاجة المشروبات الغازية في البقالة. لا أعرف ماذا يريد. يؤشر إلى زجاجة يملأها سائل برتقالي و يقول أنه يريد أن يشرب " كرانش". أشتري له زجاجة " ستار". يذهب عمي لمقابلة ضابط المخابرات. يسأله عن المواقع العسكرية في الطريق إلى درعا. لا أعرف إن كانت حرارة الصيف هي التي حسنت التقاط بث التلفزيون المصري, أم أن المصريين نشروا مقويات لاستقبال البث التلفزيوني في شمال سيناء التي استعادوها قبل أسابيع قليلة . نستمتع بالفرجة على اليوم المفتوح و " مصر اليوم في عيد" .


التلفزيون المصري يبث خبر محاولة اغتيال ديبلوماسي إسرائيلي في لندن. الجنود يخرجون شمالاً من الجليل. يرتب عمي حقائب السفر خوفاً على عمله في مشروع سد الفرات. يخاف من أن تقطع قوات جيش الدفاع الطريق بين دمشق و حلب. ينقل مذيعو هيئة الإذاعة البريطانية من لندن الأخبار بتؤدة و رصانة مفرطتين بعد أن يضعونها في الثلاجة ليوم واحد خوفاً عليها من حرارة الصيف كما يخافون على وجبة الغذاء. تتساقط القنابل العنقودية و الفراغية على البنايات في الفكاهاني. يستمع أبي و عمي إلى الترانزيستور في غرفة الضيوف. يخشون ألا تستطيع أختهم و أبناءها الهرب من البناية إلى الملجأ . ينفجر والدي من البكاء. أذهب مع عمي إلى سوق الزاوية. يشتري سمكاً مملحاً و مسحوقاً للغسيل يعيد تفريغه في عبوة تخلو من الحروف العبرية. يقضي عمي أقل من أسبوع في غزة و يعبر الجسر و لا نراه لخمسة عشر عاماً متواصلة.


أنتزع خريطة لبيروت من الغلاف الأخير لمجلة "البيادر السياسي", ألصقها على الحائط المحاذي لسريري الحديدي. أنكب على كتاب سميك لإميل توما لتلخيصه في دفترِ "الطالب" من أربعين ورقة. أختلس جهاز المسجل و الراديو من والدي عندما يغط في قيلولته. ترقص روحي على غناء رشيق لطفلة " غسل وجهك يا قمر بالصابون و بالحجر". المذيعات يجلسن أمام الميكرفون بالبيجامات. أتابع الأخبار على أثير راديو مونتي كارلو. المذيعات يشربن النبيذ الفرنسي بينما أستمع إلى وصلة دعائية قصيرة: " نكهة أكثر و نيكوتين أقل". العالم يتابع مباريات كأس العالم في إسبانيا و على شاشات التلفزيون.


عينا جدي و عكازه الخشبي لا يساعدانه على الذهاب إلى المسجد بثقة. يطلب مني والدي أن أذهب مع جدي إلى المسجد. أذهب ممتعضاً أو مسروراً, لا فرق. يؤم جدي بالمصليين. أصلي خلف جدي صلاة الجماعة. ألاحظ أن المصليين يحرصون أن يضعوا أيديهم على صدورهم و أن البعض يضعها بالقرب من القلب, و أنهم يقربون أرجلهم إلى بعض حتي لا تكون مسافة بين الأخمص و الأخمص. يلعب أقراني تينس الطاولة في المسجد و يشجعون فرق كرة القدم المتبارية في كـأس العالم, أما أولائك الذين كانوا يكبروننا, و الذي كان بعضهم إلتحق بجامعة غزة الإسلامية, فكانوا يتناقشون في فقه الصور الفوتوغرافية و بطاقات التعريف الشخصية.


أهرب من المسجد إلى نشرة الأخبار. أقارن ما أسمعه بالمواقع المرسومة على الخريطة الملصقة على الجدار: الأوزاعي, خلدة, المتحف, جاليري سمعان , الملعب البلدي, المدينة الرياضية, الضاحية الجنوبية, المطار, البرج,.... لم تسعفني الخارطة بمعرفة موقع بطاريات الصواريخ السورية. أقرأ في جريدة الأهالي المصرية كيف تسلل ناجي العلى من الجنوب إلى بيروت ؛ كيف هرب من الجنود و من عيون المخبرين إلى الصفحة الأخيرة في جريدة السفير. أرى صور نادية لطفي بالنظارة السوداء و أسمع أن يوري أفنيري قد تقاعد من الخدمة في جيش الدفاع ليقابل ياسر عرفات . أتنقل بين محطات الراديو لأقتنص أسطورة, معجزة أو حتى نصر صغير. جيش الدفاع يتكبد الخسائر على أيدي أطفال الأربيجي. جدتي تحدثني عن خوفها على خالي من الانتقام بينما كان يعمل في كريات جات في إجازة الصيف. الصيف ثقيل و بطيء. يجيء خالي بشريط كاسيت لفرقة العاشقين. شوارع المخيم تغص بالصور. فيليب حبيب يواصل جولاته المكوكية بين العواصم. إلياس سركيس يقضي أيامه الأخيرة في قصر الرئاسة. النساء ينثرن الرز على رؤوس المقاتلين. الرصاص يعانق السماء. فرقة مشاة راجلة من جنود الرائد سعد حداد تتمركز بالقرب من المستشفى الإنجليزي في ساحة التاكسيات. المقاتلون يركبون البحر في سفن إغريقية و تل أبيب تختار ساكنا جديدا لقصر بعبدا.



تنتهي إجازة الصيف و نعود إلى المدرسة و يطل رونالد ريغان علينا في الصباح من صوت أمريكا لينعي فلسطين. يمر الوقت ثقيلا و بطيئاً. يطلب مذيع التلفزيون الأردني المشاهدين بإبعاد الأطفال عن رؤية الصور التي تخدش ما تبقى من إنسانية البشر. يخرج الذباب ثقيلاً من شاشة التلفاز. يتلقي والدي بالبريد نسخ مجانية من التايم و النيوزويك. أنظر إلى الصور الملونة لحدث لا يمكن له إلا أن يكون بالأسود و الأسود. يقرأ لي والدي أن البلدوزر كان يراقب القتلة بالمنظار من مقر أركانه. المتظاهرون يغسلون رموشهم من الدم في ساحات تل أبيب. المتظاهرون يتشبثون بأفران الغاز. أخاف على ساعة اليد من المتوضأ. أقراني يلعبون التينيس في مسجد الإمام الشافعي. يصعقني أقراني, يصعقني بطلي " جيفارا غزة" حين يتكلم من حنجرة سَميِه , من حنجرة زميلي في الصف, ابن أخيه, الذي كبر ليرتدي الجلابية الباكستانية ويردد: "جيفة". يغيب جدي و والدي و أخته و أخيه و ما زلت أرنو لزيارة أخرى لشاتيلا.



قصص الأنبياء




كان جدي يحكي لى قصص الأنبياء . لم ينهي جدي سوى ثلاثة صفوف من التعليم الرسمي و سنوات عديدة في الكُتاب في زمان السلطان العثماني الأخير؛ لكنني واثق أن خطه كان جميل بالرغم من الرعشة التي أصابت  يديه و بالرغم  من ضعف نظرة الذي نتج عن  داء السكر و مياه العينيين البيضاء. أنا واثق أن جدي كان يرسم بشكل جيد. كان جدي يرسم لي دجاجات تجري وراء القمح.

كان والدي يرسم لي على ورق الدفتر علم فلسطين. كان يرسم فوق العلم شعلةً من نار, و تحته خريطة تشبه المثلث الذي ينثني عند بحيرة طبريا و خليج حيفا و البحر الميت. يكتب عودة, قومية, تحرير. كان يضع كل ما خطته يداه في إطار بشكل شبه منحرف غير مكتمل. كان يتوجه بقوس و كان يكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الإطار. كان والدي يرسم وجها لجمال عبد الناصر و يزوِر توقيع الزعيم المصري الراحل.

كان عمي يرسم لي نسراً. لم يكن النسر رصيناً و جامداً كما يبدو الأن على الأوراق الرسمية و الكتب المدرسية. كان عمي يرسم النسر بدون أن يحاول أن يضفي عليه أي وقار. لم يكن يحتاج لأي وقار. كان يرسمه كأنه يخط أي شكل كاريكاتيري. كنت أحب النسر و أحترمه. كانت مهارة عمي في الرسم تكاد أن تجعل النسر يطير. كان يرسم العلم في صدر النسر و كان يخط يافطة أسفل ذيل النسر يكتب عليها بخط النسخ الجميل "جيش التحرير الفلسطيني- منظمة التحرير الفلسطينية". كنت أفرح بنسر صلاح الدين. هكذا سماه عمي . لقد كانت تسميته صحيحة كما تحققت من ذلك لاحقاً. كان على أن أتحقق من ذلك فلقد كان عمي يجيد صناعة الأكاذيب البيضاء التي كانت تسحرنا.

كبرت قليلاً. ولد أخي الأصغر. جاءوا ليهنؤوننا  بميلاده و بسلامة والدتي. كان الأسبوع الأول من مارس - آذار قد إنقضى. لم أكن قد بلغت العاشرة بعد. عملت لضيوفنا الشاي و قدمته لهم و كلى خوف من أن تسقط الصينية  من بين يداي. كنت أنظر إلى صندوق الفيليبس الخشبي بشاشته الأبيض و الأسود. دلال كانت تقود وحدة من الفدائيين. بلد كاملة اهتزت. طائرات الهليكوبتر كانت تمشط البلد. القوارب تبحث عن أي شئ في المتوسط. كانوا يبحثون عن فلول المخربين في الغابات و في الساحل. لم يذهب العمال إلي العمل في إسرائيل خوفاً من الإنتقام. عيزر وايزمان ارتدى خوذته العسكرية. اجتاحوا نهر الليطاني.

كان والدي يأتي بجريدة القدس كل يوم. كان يقرأها و هو مسترخياً على سريره بعد أن يتناول الغذاء. كنت أسحب الجريدة خلسةً من بين يديه بعدما يستسلم لقيلولته. كنت أخذها لأقرأ. كنت أقرأ الجريدة لمجرد القراءة. لتدريب عضلاتي على القراءة. للاستعراض. لمحاولة اكتشاف سرعتي في قراءة الجريدة. لاستكشاف الفرق بين السنة الميلادية و الهجرية في الصفحة الأولى للجريدة. لأتسلى . لأبحث عن حروف ثلاثة في صفحات الجريدة الثمانية أو الستة. لأبحث عن كلمة فلسطين و مشتقاتها في جريدة محافظة تمر على مقص الرقيب.

كنت أبحث عن حروف ثلاثة إن لم أجد فلسطين أو مشتقاتها . كنت أشعر بنشوة غريبة تسرى في جسدي عندما أعثر على فلسطين أو أيِ من مشتقاتها. كنت أشعر بالنشوة عندما أعثر على م.ت.ف. بين أسطر الجريدة. كان وجهي يصبح مثل جوف بطيخة حمراء لو وجدت "منظمة التحرير الفلسطينية" مرة واحدة بدون اختصارات
.
كبرت , كبرت كثيراً. أتممت امتحانات الثانوية العامة. سافرنا أنا و أبي و جدي و أخي الأصغر إلى القدس. فحصوا عيون جدي و أخبروه بأنهم سيضعونه على قائمة الانتظار لعملية في عينيه.

سافرت. تلاشيت خلف الستارة الحديدية . ابتعدت عن أهلي و عن بلدي. صارت الرسائل هي الحبل السري الذي يربطني بأهلي . أتذكر هذا المقطع من رسالة بعث بها والدي لى قبل وفاة جدي. " لقد أجريت عملية المياه البيضاء لجدك في مستشفى سان جون للعيون في القدس و هو يسلم عليك و يستمتع بقراءة الشعارات المكتوبة على الجدران" .




خمسة أفلام بتذكرة واحدة





أحب السينما لكن لا سجاجيد حمراء في غزة.


يداهمني الحدث. أضغط على أيقونة الفيس بوك " Going" بانني ذاهب إلى " event" الحدث. سيفرشون سجادة حمراء على مرسى الصيادين. لكن لا سجاجيد حمراء في غزة. دمائنا هي الوحيدة التي تشبه اللون الأحمر. الأرض هي وحدها الحمراء هنا. الأرض قرمزية بلون الدم المسفوك بعد أن ينشف على الرصيف.


أفكر جدياً بالذهاب.أحب السينما. أحب صالاتها المعتمة. أهرب من الأضواء الساطعة. تثير حنقي الإعلانات التجارية التي تمتلئ بها النصف ساعة الأولى للعرض. أكره الحشود.


أحب السينما . أشاهد " أطفال إرنا" في قاعة مكتظة بالمقاعد الفارغة قبل عقد و نيف في مينيابوليس.


في موسكو شاهدت أول فيلم هناك بالفرنسية بدون أن أفهم أي كلمة لكن جان بول بولماندو كان رائعا كما كن الروسيات و هن يتحدثن عن " السوخوي زاكون" أو " القانون الجاف" عندما رفع " ميخائيل سيرجيفيتش" غورباتشوف سعر زجاجة الستولشينيا من روبل و أربعين كبيكاً إلى عشر روبلات مرة واحدة. لقد قنن السكرتير العام السباحة في أنهار الفودكا التى كانت تنعم بها جنة الإشتراكية السوفياتية. يالها من حماقة أرتكبها نصف سكير لم يكن كسابقيه قد أصيب بعد بالخرف.


أحب السينما . أدخل السينما لأول مرة بتذكرة مجانية في المدينة التي تحتفي بالريح و بالنبيذ و بالإمام شاميل , لرؤية فيلمين مع مدرسة اللغة و رهط من الطلبة الذين قدموا لدراسة الطب. أفسد علينا الدبولاج " رؤية " عودة الإين الضال" ليوسف شاهين , لكن صوت ماجدة الرومي كان أقوي من صخب الترجمة الرديئة؛ أما عن القايكينج فلا تحدث؛ فلقد كانوا سادة المشهد الذي لم نفهمه حتى قبل ال" Brave Heart ".


أحب السينما . أشاهد سبارتاكوس في سينما صيفية مكشوفة عندما سافر كل الطلبة إلى أهلهم بعد سنة اللغة و بقيت وحدي أقتل الوقت بقراءة كتب دار التقدم و رادوغا. كنا نمشي متعانقين في الطريق الهابطة إلى بحر قزوين فندلف إلى السينماتيك, الذي لا يعرفه أحد, حتى قبل الوصول إلى الفيلوهرومونيا المهملة في مدينة لا تحتفل إلا باللزجينكا. أشاهد فيلما بالأبيض و الأسود عن نضال السود في جنوب أفريقيا. أهرب من برد شمال أمريكا إلى " يوميات دراجة " نارية عن طالب الطب الأرجنتيني " العزيز جيفارا" قبل أن يضحى أيقونة مقتولة برصاص السي أي إيه في بوليفيا و على أيدي بيروقراطية البروليتاريا في هافانا.


لا سجاجيد حمراء في غزة. رطوبة الجو كفيلة بقتل الحدث. عربة يجرها حمار كفيلة بأن تجعل المشهد أكثر سريالية. مدير مركز حقوق الإنسان سيضرب عصفورين يبضان ذهبا بحجر واحد من الخفاف. سيزداد رأسماله الرمزي على رأي بوردو بعد أن يحفر إسم بيلفور على قماش تدوسه الأقدام. و سيجلب تمويل الممولين لأحلامه و احتياجاته التي تنتهي.


أحب السينما. أفكر بالذهاب إلى السينما . أصطحب صغيرتي إلى أفلام الرسوم المتحركة في إدنبرة. تحب السينما كما أحببتها. أصحبها إلى قاعة العرض عندما عرضوا الزوتوبيا في غزة. لا شيء يشبه السينما هناك. جهاز كومبيوتر يبث الصور المتحركة على شاش من القماش لا تشبه بأي شيء السينما. حتى ذرة الفشار بدلوها ببذور عباد الشمس. أتذكر الكونياك في روسيا البيضاء بعد مشاهدة " التوبة", و لا أنسى العجوز التي أخبرتنا في نهاية الفيلم الجورجي أنه ليس هناك خير في طريق لا تقود إلى المعبد.


أحب السينما. يأخذني والدي لحضور فيلم الرسالة في سينما النصر عندما كنت الصفوف الابتدائية الأولى. الكل يشير بالبنان إلى مصطفى العقاد مخرج الفيلم السوري. عندما كدت أن ألتحق بكلية الهندسة ربطت بين الفيلم و مبنى عمر العقاد في الجامعة التي نبتت بين الصخور . يذهلني الفيلم لكنني أتقزز من منى واصف و هي تأكل كبد حمزة.


لا سجاجيد حمراء في غزة. أكبر قليلاً. كان أقراني قادرين في العيد على شراء تذكرة لحضور خمسة أفلام أو المواصلة إلى منتزة البلدية حيث يتجمع أشباه حواة و مشاريع نصابين ليجمعوا عيدية الأولاد الأبرياء . في إجازة الصيف, يذهب من يكبرنا قليلا إلى سينما النصر يوم السبت بعد أن يجمعوا غلتهم الأسبوعية من العمل في الموشافات.


لا سجاجيد حمراء في غزة. نمشي الطريق الطويلة من الحارة إلى السينما. كانوا جميعا يكبرونني سناً بثلاث صفوف دراسية على الأقل . كانت بنيتي الجسدية لا تختلف كثيراً عن بنية أقراني أو هكذا يبدو. سينما النصر تتوسط المدينة, و بالنسبة لنا كانت على مشارف نهاياتها. وصلنا إلى السينما. ننتظر الاستراحة بين الأفلام. نقف في الشارع على مدخل قاعة العرض. نحدق في أفيشات الأفلام. بروسلي يقوم بحركات يديه المعهودة. شفاه منفوخة. صدور نافرة. سيقان عارية. فتيات بالبكيني على شاطئ البحر. فاتنات من الهند. يحرس رجل بدين مدخل قاعة العرض. يخرج مرتادو دار العرض من القاعة. يشير الحارس البدين إلى خمسة من أقراني بالدخول. أحاول الدخول معهم, فيمنعني بحزم. أنتظر بالخارج مع أخرين. يغيب الحارس البدين قليلا عن المدخل. أنتهز الفرصة. أتسلل إلى قاعة العرض المظلمة. يناولني أحد أقراني مكنسة طويلة. ننظف بلاط قاعة العرض من الأتربة و القاذورات و أعقاب السجائر. أختفي بين أقراني في الظلام. ننتهي من تنظيف قاعة العرض. يبدأ مرتادو السينما بالدخول. نضع مكانسنا جانباً و نختفي تحت المقاعد الخشبية للقاعة طبقاً لإشارة الحارس البدين. يجلس الرواد على مقاعدهم. نوزع أجسادنا على المقاعد الخشبية الشاغرة. نشاهد بروسلي. يصدح عبد الحليم في فيلم بالألوان ألتقط في جبال الأرز. إمرأه بملامح صينية و بصدر نص عارٍ تجلس على أريكة بينما يلتقط رجل بشوارب رمانة من صحن كبير ممتلئ بالفواكه على طاولة صغيرة ترقد أمام الأريكة. كل شيء يحاول دغدغة التيستيستيرون في دماء المشاهدين.


أحب السينما؛ و غزة فيلم أمريكي طويل.


أدخل المرحلة الإعدادية في نفس مبنى مدرستي الإبتدائية. أسعد الصفطاوي يعمل نائباً لناظرة  مدرسة البنات الإبتدائية المجاورة. السعودية تتبرع بإنشاء المجمع الإسلامي. ضابط الركن يقص شريط الافتتاح. الشيخ أحمد ياسين يتحرك بدون كرسي متحرك؛ مريدوه يساعدونه على الحركة. أبو وردة يموت مقتولاً في جباليا. المدرس الخارج من السجن بعد سنين متهم باختلاس ثلاثين ألف جنيه إسترليني. يتحدثون في غزة عن جامعة . حيدر عبد الشافي يريدها باسم الإمام الشافعي. نخرج من المدرسة قبل حصتين من موعد انتهاء الدوام المدرسي في الفترة المسائية الثانية. يتجمع أقراني أمام مدرسة البنات. ألتقط عن التراب منشورا بدون توقيع. لجة في الشوارع. أذهب إلى المسجد الخالي من المصلين لصلاة العصر و أعود أدراجي إلى البيت. يخرج أقراني مشياً على الأقدام إلى مكتبة الهلال الأحمر. يحرقون بعض مصاحف القرآن مع كتب لينين و ماركس. يخربون متجر الكحول الوحيد في غزة. الجنود المنتشرون في شوارع المدينة يراقبون المشهد عن كثب و بحياد كامل. أبو صبري يصول و يجول في المدينة. يحرق أقراني سينما النصر.


لا سجاجيد حمراء في غزة. أكبر و يكبر أقراني. أغترب و أتغرب. يلتحق أقراني بجامعة غزة التي تصبح إسلامية. يُبعدون. يُعتلقون. و يكبرون, يملئون الفراغ. يستولون على السلطة و الحكم في غزة. يصبح أقراني قادة. وزراء. يحرسون البلد أو السجن من السلك إلي السلك. لا سينما بغزة في زمانهم و لا إضاءة. يدخلون البلد في ثلاثة حروب بتذكرة واحدة, و لا نعرف متى ستأتي الحرب الرابعة.