04‏/12‏/2018

نشأت






كنا نطبش. لا أستطيع  حتى أن أقول أننا كنا نفعل ذلك! 

لم تسمح لنا الشوارع الترابية بذلك. لم تأتي إلينا عربة من عربات الجيش. خذلتنا كل فرق الجنود الراجلة. 


أرى صورة الفتى يحمل عجل الكاوتشوك. أرى صورة الشهيد و هو يحمل عجل الكاوتشوك بالقرب من السلك. ألاحظ كيف تمكنت الكاميرا إلى رفعه إلى درجة الأيقونة, و كيف صعدت به الشهادة إلى السماء. ألاحظ كيف يكتب الشعراء كلماتهم الركيكة و يذهبون بعيداً في الحملقة في وجوههم في المرآة وفي قراءة شعرهم التافه مرة أخرى و أخرى. لم يهتم أحد منهم بالنظر في عيون الأيقونة. كل ما أهتموا به هو عجل الكاوتشوك الذي كان يحمله. كل ما أهتموا به هو جسده النحيل و عمره اليافع. كل ما أهتموا به هو أنه حلق بعيداً في السماء. لم ينظر أحد إلى عيونه المتوهجة بالذكاء.


تشاكسني عيون الشهيد الأيقونة, وأتذكر عيون نشأت.

 أتذكر نشأت. الطش على الصف بامتياز. نشأت الذي يجلس في البنك الأخير في الصف. نشأت ببنطاله الساحل. نشأت أطول و أعرض  طالب في الصف. نشأت الذي كان يقدم كفي يديه واحدا تلو الأخر بطواعية للخيزرانة التي تعاقبه لأنه لم يحل الواجب. لأنه يشاغب.  لأنه لم يستطع حل مسألة الحساب السهلة, أو حتى لمجرد أن الابتسامة الساخرة في عينيه استفزت كبرياء المدرس.


أتذكر نشأت و أعود إلى الخلف لأنظر في عيون نشأت. نشأت الذي لم تحوله الشَهادة إلى أيقونة أخرى, و لم تنتزعه البطولة من الحياة. نشأت إبن صفي الذي كان يكبرني في العمر كما كان يكبر أغلب أولاد الصف.


أتذكر نشأت.


وجهه الطازج مثل رغيف خبز خرج للتو من الفرن.


تبرق عيون نشأت بالسخرية و بالذكاء, و تنثر غمازات خديه البهجة البريئة.


كنا في عمر الشهيد الذى تحول إلى أيقونة. أنا متأكد أننا كنا أصغر من عمره قليلاً.

 لا أستطيع حتى أن أقول أننا كنا نطبش. لو كنا طبشنا لكنا طبشنا على أنفسنا. كنا نلعب في  أطراف المدينة. 


كنا نلعب, مثلما كنا نلعب في الزقاق عندما نحشو فتحات المفاتيح القديمة و الصغيرة بالكبريت الذي كنا نكحته من عيدان الكبريت, و من ثم نجعل المفتاح يصطدم بالجدار ليصدر انفجارا. كنا نهتف مثلما كنا نطلق صراخنا الطفولي الذي لم نكن نفهم أي معنى له: " ولعت كوريا". كنا نلعب.


نتجمع قبيل موعد الطابور الصباحي أمام بوابة المدرسة. حسب الاتفاق, أجلب الكاز في زجاجة دواء صغيرة, و أتي معي بعلبة كبريت من البيت. يتحرك جسد نشأت باتجاهنا. يجلب عجل الكاوتشوك القديم. أصب الكاز على العجل. نهيل بالورق و الكارتون على الهوة الدائرية التي تحتضنها دائرة العجل. أمسك مجموعة من الأوراق. أقدح عود الكبريت بالعلبة. أشعل الورق, و أهيلها بنارها من بعيد على العجل المبلل بالكاز. يشتعل الكاوتشوك. يطير الدخان الأسود في سماء الشارع الترابي. تنطلق حناجرنا الصغيرة بهتافاتنا البسيطة. يعود البعض أدراجهم إلى بيوتهم. يتسرب البعض عبر بوابة المدرسة إلى غرفة الصف. و نستمر في التجمهر أمام بوابة المدرسة الإعدادية. تخيب كل ظنوننا بقدوم دورية راجلة أو محمولة من الجنود إلى الشارع الترابي النائي. نستمر في التجمهر حتى نمل و حتى تتعب حناجرنا الفتية من الصراخ. نتفرق بعيداً. نعود أدراجنا إلى بيوتنا أو إلى غرفة الصف خائبين.


تخذلنا الشوارع الترابية, و يخوننا مكان إقامتنا و دراستنا في أطراف مدينة لا تعرف الصمت إلا لتنفجر مرة أخرى. نادرا ما كنا نرى الجنود, إلا في طريقنا إلى ساحة التاكسيات البعيدة. نلمحهم في الصيف و هم يتحركون تجاه الكثبان الرملية الغير المؤهولة و البعيدة عن بيوتنا. لا أعرف ماذا كانوا يفعلون هناك, لكن الكلام كان يدور عن مواجهات كانت تجري قديماً هناك في زمن لا نعيه, و عن بقايا ألغام طالما تضرر البعض منها.


نندب حظنا الرديء في أطراف المدينة. يحدثنا زملائنا الذين يأتون عبر الشوارع الإسفلتية  عن الكاوتشوك الذي يجلب عدسات الصحفيين الأجانب و دوريات الجنود. ننظر إلى بعضنا و نهمس. نخرج بعيدا. نعاين المكان سوية. شارع أسفلتي تصب فيه العديد من الأزقة الترابية. الحركة خفيفة في الشارع الأسفلتي. أتفق أنا و نشأت. سنجلب عجل الكاوتشوك. سنشعله و نهرب. سنربك الدوريات التي تجوب الأسفلت. ستبتلعنا الأزقة الترابية في طريقنا إلى البيت. هذا كل أسعفنا به خيالنا.


يترك نشأت المدرسة. يرسب في اختبارات آخر السنة. بتعلم الحدادة و تصليح السيارات. أراه بملابسه المشحمة بزيت السيارات أو بصدأ الحديد. يمطرني ببريق عينيه و بغمازات خديه, و يمشي كل واحد منا في طريقه. أمل من التجمع أمام بوابة المدرسة الإعدادية و من إشعال الكاوتشوك بعيدا عن عيون الجنود و عن كاميرات الصحفيين. أمل من محاولاتي الفاشلة في إيهام نفسي ببطولة لا أستحقها.


أتحلى بالحذر. أسلح نفسي بوعي قبل الأوان. ألتهم الكتب لمجرد التهامها. ألخص كتاباً لإميل توما عن تطور القضية الفلسطينية. أستعير الكتب من مكتبتي الثقافة و النور و الهلال الأحمر ببطاقتين ليستا لي. أضع خريطة لبيروت, كانت ملحقاً لمجلة البيادر السياسي, على الجدار الذي يستند عليه سريري. كلمات جديدة تضاف إلى قاموس مفرداتي: المتحف, المدينة الرياضية, خلدة, الأوزاعي, المطار, الطريق الجديدة. استمع إلى فريدة الشوباشي في راديو مونتي كارلو. سيلك كات "Silk Cut"  نكهة أكثر و نيكوتين أقل. تبدو المذيعات و كأنهن يرقصن بأنوثة فائقة على أثير مونتي كارلو. أقرأ كتيبات عبدالله عزام و فتحي يكن في المسجد. أتعرف على سوهارتو و سوكارنو. يتابعون أخبار كأس العالم في المسجد. يتناقشون عن شرعية التقاط الصور الفوتوغرافية؛ يتفقون أن الشرع يتيح التقاط الصورة الشخصية لبطاقة الهوية فقط.


لا أشارك في التظاهرة الأخيرة في المدرسة الإعدادية. لم أكن أعرف إن كانت ضد زيارة جيمي كارتر إلى غزة و استقبال رشاد الشوا له أم أنها كانت تتعلق باغتيال مسؤول فلسطيني  في ليشبونا. الإضراب اعتراضا على زيارة كارتر يشل الحركة في المدينة. أدخل إلى المدرسة. أجلس مع مدرس الرسم في مرسم المدرسة. كانت علاقتي قد توثقت بعد أن استشرته عن رسم لي خططته على فرخ بريستول. كان مجرد تقليد لدراسة لجسد ذكوري عاري ممد على الأرض. كل  أضفته هو أن جعلت من الوزرة, التي يلتف بها حوض الجسد, على شكل كوفية و أخرجت غصن زيتون من يد الجسد المسجى و أضفت نقاطاً من الدماء تناثرت على الأرض. مدرس الرسم يرتدي بدلة زيتية لا يغيرها و لا يتخلى عن شنطة السامنسونايت. يفتح الشنطة و يخرج منها ألبوماً للصور. يريني لوحاته التي رسمها بالزيت. يتحدث عن عصام السرطاوي بإعجاب.


أنهي المرحلة الإعدادية. يزداد حذري و انتباهي. أشعر بالريبة من زميلي في المدرسة الذي يحمل إسم جيفارا غزة لمجرد أنه ابن أخيه. أواظب على دروسي و قراءاتي. أبحث عن نفسي في الرسومات و في الكتابات المبتسرة. أتفادى الطرق التي يمر منها الجنود. أنشر ما تخطه يدي في جريدة الميثاق التي كانت تصدر مرتين في الأسبوع بإسمي الأول. تمر السنوات الثلاثة في المدرسة الثانوية. أستمر في الحذر. تشاء الأقدار أغادر للخارج. أغيب ثماني سنوات. لم ترصف الشوارع الترابية بالأسفلت, لكن الأزقة النائية أنتجت مفردة جديدة تضاف لقواميس لغات العالم.


أمضي ثمان أعوام بعيداً. أعود. أمضي ثلاث ساعات و نصف في الطائرة. تهبط الطائرة في مطار اللد. أمر عبر بوابات المطار بسلاسة لم أتوقعها. أنتظر حقائبي. أستلم حقائبي. لم يكترث أحد بهبوطي في مطار بن غوريون. من كانوا يمثلوننا هبطوا هبوطاً إضطراريا في غزة و أريحا قبل بضعة أسابيع. لم تنتظرني وحدة من البوليس لاعتقالي. لم يحاكمني أحد سواء على أفكاري التافهة أو تلك المهمة. لم يكترث أحد بمجلات الحائط التي كنت أرصعها بالرسومات و  بالجمل الثورية. لم يكترث أحد بكل تلك الرطانة الثورية. أستقل سيارة أجرة إلى إيريز. أستقل سيارة أجرة أخرى إلى البيت. أشاهد شاحنات تحمل مواسير ضخمة للصرف الصحي. البنك الدولي و شعاره مثبت على  يافطات تحملها الشاحنات.


أمضي أيامي الأولى في البيت. أخرج من البيت لأجوب شوارع المدينة. حواريها و أزقتها. المدينة كبرت على عجل. كتل جديدة من الحجارة و الأسمنت غزت الشوارع الترابية و الإسفلتية . لون رمادي  يكسو المدينة. البيوت شيدت على عجل بدون أن يتم طلاءها. الشعارات تملأ الجدران . أمشي على قدماي مستكشفا المدينة. أقرأ الشعارات على الجدران الرمادية. أبتعد عن مركز المدينة. أقترب من بيتنا.



يطالعني اسم نشأت. أري عيون نشأت الساخرتين و الذكيتين. أقرأ اسم نشأت. حماس تعلن عن تصفية العميل نشأت أبو ... و أقرأ اسم نشأت كاملاً. أتوقف قليلاً. أمشي. أمشي قليلاً. يطالعني اسم نشأت مرة أخرى. تنثر الغمازتان الطازجتان الخارجتان من خديه بهجة ملوثة في الهواء. الجهاد الإسلامي تنعى الشهيد نشأت أبو ... و أقرأ اسم نشأت كاملا مرة أخرى. و أقرأ اسم نشأت مرة ثالثة. حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" تدين اغتيال نشأت. و أقرأ اسم نشأت كاملاً مرة أخرى و أخرى. و يبقى نشأت أيقونة من أيقونات صباي المبكر.










   

ليست هناك تعليقات: