05‏/12‏/2018

أربع ساعات في فلسطين



قبل سته سنوات زرت فلسطين التي أحب. فلسطين التي لا  أعرف. فلسطين التي تعرفني و أعرفها جيداً.

في الصباح خرجنا عبر معبر رفح. شقت الحافلة طريقها في الصحراء التي  أصبحت مريبة. بدو و قطاع طرق وجيش عبر خط بارليف ليثبت وجوده الرمزي على كثبان الرمل. هللنا و ارتحنا   قليلاً عندما عبرنا الجسر الذي يعبر فوق القناة. وصلنا إلى أم الدنيا. الدنيا تغيرت بعد مليونيات ميدان التحرير قبل عام و نيف. وصلنا في الليل إلى فندق  بنجوم سبعة. غالبني النعاس. قضينا ليلتين في القاهرة . حطت  طائرتنا  على مدرج يخرج لسانه للعالم من البحر المتوسط. رفض ضباط المطار  و ضع الأختام على وثيقة سفرنا الفلسطينية. أخذوا تصاريح الزيارة. ملأنا  نموذج رسمي من الورق المقوى وسموه بالختم الرسمي. الحافلات الصغيرة انتظرتنا لتقلنا إلى نزل أنيق في وسط  العاصمة. أستخرج أسماء الشوارع  من ذاكرتي و لا أتقن سوى التيه فيها. أبعث برسالة عبر الإنترنت لصاحبي الذي لم أراه لعشرين عاماً.

نخرج في رحلة إلى المغارات و البحر و الجبل. نتناول الإفطار. يسألوننا عن الحرب و الحصار و لا تتوقف  العجوزة الإيطالية الشقراء  عن نفث دخان سجائرها في وجوهنا و عن حديثها  الذي لا ينتهي عن الفوسفور الأبيض. نشارك في  المؤتمر الذي جئنا إليه. نضحك من ملأ أشداقنا على نوادر  أستاذ الجامعة الذي تزوج ثلاثة من زميلاته. يجيئني صاحبي محملاً بغياب عشرين عاما. يمر بصعوبة بين اختناقات المرور. يتصل أكثر من مرة ليحدد بالضبط المكان الذي أقيم فيه. أخبره أنني سأنتظره على مدخل الفندق. ألمح سيارة تتوقف بالقرب من المدخل. يخرج من البي أم دبليو. جسده الضخم يشق طريقه تجاهي برشاقة سهم . نتعانق. أنظر إلى وجهه. أتذكر على أبو طوق. أنظر إلى وجهه لكن لا شيء فيه يشبه علي أبو طوق. يغزو وجه علي أبو طوق عيني. أخذ صاحبي و  نجلس في البهو . نشرب القهوة و نستجمع الذكريات و أسماء الرفاق القدامى. أقترح عليه أن نقضي المساء في المدينة. نستقل السيارة. ينفث السجائر و يتأفف من الطرق المسدودة. يتحدث عن المدينة و عن الشهداء. مقبرة الشهداء. ضريح الشهداء. العمارات التي لم تدمرها القنابل العنقودية أكلها الزمن لتبدو كصور قديمة ملونة بالأصفر. المدينة الرياضية. الملعب البلدي. تنساب السيارة بعفوية في الشوارع. يؤشر إلى الطريق المؤدي إلى مستشفى حيفا و يستمر في سرد الحكايات.

يأخذنا إلى المخيم. نمر بالسوق الشعبي لفقراء العاصمة. لديه بيت في المخيم و أخر على أطرافه و لديه سيارتان. هو الذي لا يحمل ترخيصاً لممارسة الطب في البلد يعالج فقراء العاصمة في المخيم و في مغارات الجنوب.  نمر بالشوارع الواسعة في المخيم. بالكاد تتسع الشوارع الواسعة لعرض سيارة واحدة تمشي ببطء في إتجاه واحد. نمر بحواجز الفصائل. صورة الديكتاتور المرسومة  على جدران  الحاجز تفقأ عيني. ملصقات. فتح. الصاعقة. صور  لياسر عرفات.. جهاد جبريل. أبوعلي مصطفى.  مطر آذار لم يجف عن الشوارع.  يركن سيارته في ساحة صغيرة تتوسط الأزقة. نخرج بأجسادنا من الفولاذ. نقحم أجسادنا في غابة إسمنتية صغيرة. نخفض رؤوسنا لأسلاك الكهرباء التي تتعانق مع خراطيم المياه. نرفع رؤوسنا للسماء. لا سماء فوقنا. الأسمنت يعلو فوق كل شيء. أتذكر مخيم الشاطيء. التشابه لا يخفى الاختلاف. أتذكر معسكر ديرالبلح. نمشي. نفس الأطفال و الملابس و العيون. الأزقة بقيت على حالها و الغرف صعدت إلى السماء في إسمنت معلب.

نتوقف في عيادة صاحبي  الفارغة إلا من المرضى القلائل الذين جاءوا ليراجعوا أخيه الطبيب الآخر فيها. أتعرف عليه. و نجلس. أسأله عن صاحبنا الدمث القديم. يطلب من أخيه أن يأتي به. نشرب الشاي. يأتي صاحبنا القديم. أعانقه. صوته كما هو لكن شيئاً ما أكسبه المزيد من الحياد و اللامبالاة.  نتحدث عن ذكرياتنا القديمة و أعمالنا الراهنة. يطل  غسان كنفاني كعادته من  وجه صاحبي القديم. أتساءل إن كان غسان قد بعث حياً ليصاب بالاكتئاب بعد أن شفي من السيارة المفخخة و من داء السكري. نخرج من العيادة بعد أقل من ساعة و نصف في المخيم. أسأل صاحبي لماذا لم يأخذني لنتجول في العاصمة . يجيبني أنه لا يعرفها فهو لا يعرف سوى المخيم و لا يأتي لبيروت إلا في حال قدوم  أصحاب مثلنا إلى العاصمة أو عندما يزوره أقاربه من الدانمارك ليتجول بهم في باريس الشرق. نقحم أجسادنا في الزواريب التي تسمى شوارع.  أتذكر مخيم جباليا. أبحث عن الفرق و التشابه. بعيداً عن قواعد الفدائيين شرق الأردن  عن جسد آسره  الملتصق به, يخرج جان جينيه من أزقة المخيم مع الدم و الجثث و الذباب ليذكرني بساعاته الأربع في شاتيلا, فأرى فلسطين التي تشبهنا. أرى فلسطين التي لا تشبه إلا نفسها. و أظل أتوق لشاتيلا.



ليست هناك تعليقات: