10‏/12‏/2018

أربع و عشرين ساعة في غزة.


الأخبار من دمشق الساعة السادسة و الربع صباحاً. بعد ربع ساعة الأخبار من أورشاليم القدس تملأ الفراغ الذي تركه أحمد سعيد. فؤاد المهندس يقول كلمتين و بس. "الدنيا هي الشابة و إنت الجدع" في إذاعة الشرق الأوسط من القاهرة. . صوت الراديو يقتل عصافير أول الشمس. تنافس ثمانية أشخاص على حمام واحد يغتال سكينة الصبح, رائحة النشادر المخففة تقضي على احتمال الياسمين. سياط الصباحات الباكرة يفسد الندى.
زهر الحنون الأصفر النابت على هامش أشجار السنط هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه الزهر جمالا في هذا الحي . تزحف غابة الأسمنت لتحتل بقايا بيارات البرتقال . " المجنونة " أحمر بلا رائحة يزين الأسمنت و مداخل البيوت. لا مكان للياسمين في حي يعبق برائحة قلى الفلافل صباحاَ. القريص ينمو أسفل أشجار ألأكاسيا التي تسييج البيارة المقابلة للمدرسة الابتدائية التي تغدو مدرسة تضم كل الصفوف حتى نهاية الثالث الإعدادي لاحقاَ.
المدرسة بساحتها الفسيحة و أشجار الكينيا تمنح المشهد نوعا من الجمال في مدينة فقيرة كدنا أن نختزل فيها الوطن. هنا لا شقائق نعمان و لا بلابل .الثانوية هي الطريق الطويلة و الجديدة بعيداً عن محيط البيت و الحارة. بعيداً عن مدارس الوكالة.
أخترق وسط المدينة و عيوني على أجساد الفتيات . تنانير الزي المدرسي بقماش الكاوبوي الأزرق , قصيرة أو طويلة , مفتوحة من الخلف أو مغلقة. مؤخرات تتمايل مع حركات الأقدام إلى الأمام. صدور نافرة أو منكمشة. وجوه الطالبات لا تخلو من الجمال في هذا العمر.
كان للثانوية أن تكون مرحلة جديدة, لكنها لم تكن. سياط الصباحات ما زال يلاحقني. تصميم بناية المدرسة الثانوية الحكومية تمنح المدرسة كآبة افتقدناها في مدارس الأنروا. قطعة من الأسمنت و الخرسانة محكمة الإغلاق. لا مكان لأشجار الكينيا في الفناء و لا للشمس في المبنى الإسمنتي . الطلبة يأتون من كل أحياء شرق المدينة. قدرتي على التأقلم محدودة . بقايا زملاء من المرحلة الإعدادية السابقة يغيثون وحدتي. أحاول أن أبقى صامتاً. الحيطان لها آذان تسمع. الخفافيش تعشعش داخل أسوار المدرسة الثانوية أثناء الإجازة. تتساقط أوراق منسوخة بالكربون أو على ورق ستناسيل من أعلى سطح بناية المدرسة. لجة يتبعها جرس المدرسة الذي يعلن مستعجلاً بداية يوم جديد.
****
مناحيم بيغين يستقيل قبل أن يتزحلق في الحمام. ياسر عرفات يعود إلى مخيم البداوي بعد خروجه من بيروت و طرده من دمشق. حركة التوحيد الإسلامي بقيادة الشيخ سعيد شعبان تطارد الشيوعيين في طرابلس. إسحق شامير يتسلم رئاسة الوزراء. طالب من أنصار المجمع الإسلامي يعتدي بسكين على مدرس الفيزياء الأحمر. يدعون أن وجهه يميل إلى الاحمرار من كثرة شربه للخمر و السجائر. أبو علي شاهين يقضي إقامته الجبرية في الدهينية. نمشي منتبهين في طريق عودتنا من المدرسة. كشك صغير لبيع السجائر و المطبوعات و أوراق اللوطو . ساحة التاكسيات تستضيف الجنود. موسيقى فرقة العاشقين تصدح عالية من بسطةٍ لبيع الكاسيتات : "اشهد يا عالم علينا و ع بيروت, إشهد ع الحرب الشعبية". ينقطع الغناء. صراخ الشيخ كشك يخرج من المسجل. أشعر بالتوجس من باعة الجرائد و أشرطة الكاسيت.
****
يخرج بعض الطلاب إلى الشارع. يشتعل الكاوتشوك. يلوذ الطلاب بمبنى المدرسة. كنت في الصف عندما اقتحم الجنود المدرسة. الأستاذ الذي تخرج حديثاً يقف وسط الصف بهيئته البهية. يدخل عسكري بسحنة حنطية و ملامح شرقية إلى غرفة الصف. ينظر إلى الطلاب كأنه يبحث عن فريسة. يتوجه إلى محمد الذي كان يجلس في المقعد القبل أخير في الصف الأوسط للمقاعد الخشبية. ينقض العسكري الضخم على محمد. يمسكه من الخلف. من ياقة قميصه. يدفعه بعنف إلى خارج الغرفة. يمتزج الصمت مع الخوف و الترقب. يدخل الجنود غرفة الصف المستباحة فرادى أو بالمثنى. ينظرون إلينا. يبحثون عن فريسة جديدة. يتقدم مني جندي. يطلب بطاقة هويتي. أخرجها من جيب قميصي حيث كانت ترقد. يصادر البطاقة و يأمرني أن أذهب . لا أعرف إلى أين أذهب. أخرج من غرفة الصف. أمشي في الكاريدور المظلم الذي يفضي إلى الصفوف. جنود يمسكون بعض الطلاب و يعنفونهم. أتذكر أحد أقاربي الذي كان يسمى نفسه أبو لهب عندما اخذوه من المدرسة و احتجزوه يوما كاملاً ليتلقى الضربات بالهراوات على رأسه. جنود يتخايلون في الممر. طلاب يذهبون إلى سبيلهم. أمشي خلفهم. أجد نفسي في فناء المدرسة.
****
سيارات عسكرية و جنود في فناء المدرسة. يداك على رأسك و رأسك للحائط و ركبتاتك تقرفصان على الأرض. تسمع صوت انفجار مكبوت خافت يتكرر بشكل رتيب. يقترب صوت الانفجار المكبوت منك. يقترب أكثر فأكثر. لا تسمع الصوت هذه المرة. الشلوط يهوي على مؤخرتك . تتوالى الركلات على مؤخرات زملائك المرتصين حتى أخر الطابور الممتد على جدران المدرسة الخارجية.
لحظات صمت. تسمع صوت توضيب البنادق. تتذكر ما سردته أمك عن أولائك الذين تم رشهم بالرصاص و أيديهم إلى الحائط عام 1956. لوحة غويا تتسلل خلسة إلى عيناك المحاصرتين بيداك المسنودتين إلى الحائط. يداهمك الرعب. تتسارع ضربات قلبك. تنصت إليها. يقطع هدير محركات السيارات صوت ضربات القلب المتسارعة. صوت الناظر المتماسك يصعد فجأة بلطف شديد" قوموا إقفوا ياشباب". لا تصدق نفسك. تتثاقل بالوقوف بعد طول القرفصة على الأرض و إسناد الأيدي التي كانت تحاصر العينيين إلى الجدار " المرشوق" بالشلختة . الساحة خلت من السيارات العسكرية. سيارة بيضاء يتيمة في ساحة المدرسة.
الناظر يقف مع عسكري في الخمسين من العمر و يتحدث معه. ينظر الناظر إليك و يؤشر نحوك و هو يتحدث مع العسكري الكهل. تتوجس. ترتبك. تتريث في المشي, و كأنك تنتظر أن يطلب منك الناظر التوجه نحوه. يفهم الناظر. يؤشر لك بالذهاب. تصعد إلى غرفة الصف. إعتقلوا محمد الذي صادوه من غرفة الصف, و تعرف أن صاحبك حسام قد أعتقل أيضاً مع أخرين. تفهم فيما بعد أن الناظر كان يتحدث مع الضابط عنك كنموذج لطلاب عوقبوا بشكل جماعي, و تفهم أنك و أكثر من أربعين طالبا من زملائك الذين لم يتم اعتقالهم يتوجب عليكم التوجه إلى مقر الحاكم العسكري في المجلس التشريعي لاستلام هوياتكم.
***
نخرج جماعات. أجد نفسي مع مجموعة لا تقل عن عشرة طلاب. نسير سوية مشيا على الأقدام. يتساءل بعضنا عما قد يحدث لو أوقفتنا إحدى دوريات الجيش , التي تجوب الشوارع, و سألتنا عن بطاقات هوياتنا. كانت إجابة أحدنا , أحد الطلاب مقنعة: سينقلوننا مجاناً إلى مقر الحاكم بجيب عسكري. كان أقصى ما يمكن أن يفعله الجنود و دورياتهم الراجلة عند توقيف أحد الشباب الذين يمشون في الشوارع و لم يرتاحوا لشكله هو أخذ بطاقة هويته , ضربه بضع ركلات و صفعه بضع صفعات على الوجه, و الترويح أحيانا عن أنفسهم بالإهانات و بالمزاح الثقيل, الطلب منه بمراجعة الحاكم العسكري. كم كان الجنود رحماء في تلك الأيام .
مشينا .. وصلنا إلى ساحة المجلس التشريعي, بعد أكثر من نصف ساعة من ترويض أرواحنا المرهقة بالمشي ومداواة قلقنا بتبادل أحاديث لا علاقة لها بالحدث, و كاننا نبعد عن أن أنفسنا شبهة القلق أو لأننا كنت نشك في بعضنا الأخر. كنا أخر دفعة من نحو أربعين طالباً تجمعوا في ساحة المجلس التشريعي.
يحضر أبو صبري , الضابط الإسرائيلي المعروف بتوغله في دهاليز المجتمع الغزي و لهجته الفلسطينية و الذي عرف لاحقاً بحكايته مع الشيخ أحمد ياسين. تجمع الطلاب حول أبو صبري, ينتقي مجموعة من الطلاب لا أدري على أي أساس. لكنني أعتقد أن ذلك تم بناء على قائمة كانت معه أو بناء على بطاقات الهوية التي كانت لديه. كنت بعيدا كعادتي. لم أفهم ما كان يجري تماماً.

• جماعة أبو عمار يجوا معي و جماعة أبو موسى يروحوا على الجوازات.

كانت سخريته موجعة. مشينا نحن اللذين لم نحظى بتتبع أبو صبري بضع دقائق إلى الجوازات.
***
دخلنا إلى الجوازات التي كان يحرسها الجنود. لم أنظر إلى وجوه الجنود. لم أكن أكره الجنود لكنني كنت أكره لون زييهم الخاكي العسكري, و بنادقهم , و ركلاتهم التي حطت على مؤخرتنا. جلسنا على مقعد طويل تحت معرش زينكو. كنا نحو دزينة أو أكثر أو أقل قليلا من طلاب المدرسة الثانوية. لم أكن أعرف أحداً منهم. كانوا جميعاً أكبر مني. كنت متوتراً بدون أن أظهر ذلك. كنت صامتاً بينما الأخرون يتحدثون و البعض يثرثر بشكل إستعراضي. إكتشفت مدى ضحالة تجربتي و سمعت جملاً و حكماً و أمثالاً لم أسمع عنها من قبل من أفواه أقران في سني أو يكبرونني قليلاً. خلدت إلى نفسي و إلى صمتي و حافظت على إجاباتي القصيرة. الموت مع الجماعة رحمة, كما صرح ذلك الذي يستعرض ثرثراته. الوقت يمضي بطيئاً. إنتظرنا أكثر من أربع ساعات. حان آذان العصر. لم يذهب أحد للصلاة, لا أعرف إن كان ذلك متاحاً , أم أنه زمن أخر. كان الموت و الحياة جماعةً أنداك هو عنوان المرحلة, بدلا من طقوس صلواتنا الجماعية التي نؤديها الأن بدون أدنى خشوع.
****
تدخل مقر الجوازات سيارة رينو بيضاء صغيرة.يخرج منها شاب أنيق بقميص أبيض و نظارات سوداء. يقوم بإزالة لوحتها الفضية لتظهر اللوحة الصفراء التي كانت تختفي تحتها. يبدو أنه قام بجولته في أحياء المدينة و شوارعها بدون أن يلتفت إليه أحد. قام بفك البراغي التي تثبت اللوحة الفضية بيده. حضور الشاب الثلاثيني أحدث جلبة في المكان. ننتظر. يبدأ نفس الشاب الثلاثيني باستجوابنا واحداً تلو الأخر. يأتي دوري. أمشي وسط ممر مرصوف بالأسمنت و محاط بالزهور و النباتات الخضراء القصيرة و بجنود بلا بنادق و لكن ببساطير أخاف من ركلاتها.
أدخل الغرفة الضيقة حيث يجلس نفس الشاب الثلاثيني الوسيم صاحب القميص الأبيض و النظارات السوداء, خلف مكتب صغير مستقر في مواجهة باب الغرفة. الغرفة تضج بفوضى عارمة. أجلس على كرسي في مواجهة الشاب بعد أن يشير لي بالجلوس. ملفات مكدسة يعلوها الغبار موضوعة على رفوف على يمين الشاب و على سطح المكتب الذي يجلس خلفه. إضاءة خافتة. باب مغلق على يسار الشاب. خردة. مصباح للقراءة على الرفوف. آله كاتبة مركونة على الرف يعلوها الغبار. غرفة مكتب مهجور لشاب يمارس عمل ميداني في حواري المدينة. كم أحب افوضى و الأماكن المغلقة.

أشعر بالكرة المطاطية المسمطة بين ضلوعي كما أشعر بها الأن و أنا أكتب. يذكر الضابط إسمى متسائلاً. أهز برأسي و أتبع ذلك بإجابة مقتضة بصوت مسموع. يعرف على نفسه باسمه الرمزي/ الحركي. هم أيضا لهم أبواتهم مثلنا. أبوموسى. يسألني عن تاريخ ميادي. أجبته. عن صفي. أجبته. عن إنتمائي السياسي. أجيبه بأن إنتمائي و ما يهمني هو دراستي. تتتابع الأسئلة عما كنت أفعله عندما الإطارات تشتعل في الشارع. أجيبه أنني لم أخرج من صفي طول الوقت. يسألني عن الذين يحرضون و يوزعوا المناشير. أجيبه بعدم المعرفة. يسالني عن مكان سكني. أجيبه. ثم يسترسل في الأسئلة عن مكان سكني بالضبط. كأنه يريد أن يقول لي أنه يعرف كل شبر في الحارة التي أسكن فيها و كل شيء عني. أشعر براحة عندما يقول أن على الحضور مجدداً الساعة العاشرة في صباح اليوم التالي. شعور بالراحة لأن المقابلة إنتهت, و بالخوف و القلق لأن بطاقة هويتي ما زالت لديهم فقد أصير مثل الخيط في المكوك متحركاً ذهاباً و إياباً بين أسرتي في البيت و أبوموسى في الجوازات. خرجت . كان النهار يوشك على الانتهاء. فكرت بمعرفته الدقيقة لمكان سكني. تذكرت أن رقم البيت مكتوب على بطاقة الهوية.
****
أعود إلى البيت. أنام ليلي. نوم متقطع لكنه جميل. أستيقظ صباحا. كسل لطيف بعيداً عن الدوام المدرسي. أذهب إلى الجوازات صباحاً. أجلس مع زملائي في نفس المعرش. لم تمضِ أكثر من نصف ساعة. يحضر عسكري ضخم البنية بسحنة سمراء. نقف عند حضوره و يسود الصمت. يلقى علينا " الطحان" خطبة عصماء قصيرة بلغة عربية متقنة بلهجةٍ مصرية. بيده مجموعة من بطاقات الهوية. يبدأ بمنادة أسماءنا واحداً تلو الأخر. أتقدم نحوه بعدما قرأ إسمي لأستلم بطاقة الهوية. سلمني الهوية بيده اليسرى و صفعني على خدي الأيسر بيده اليمنى. خرجت من مركز الجوازات. شعرت بالمدينة و كأنها خاوية و كذلك روحي.






ليست هناك تعليقات: