05‏/12‏/2018

تلصص

أنقل السلم الخشبي. أثبته مائلاً. أضع رأسه على فوهة الفتحة المربعة الواقعة بين سقفين إسمنتيين . أتأكد أن السلم مثبت بشكل جيد على البلاط. يصعد الجسد النحيل إلى الأعلى. تصعد قدماي الحافيتان على القواطع الخشبية. أتأهب قليلا عند صعود المسافة بين قاطعين خشبيين. كان السلم قد فقد سنين متقابلين من طاقم أسنانه. أقفز بين القاطعين الخشبيين المتباعدين. أواصل تسلق السلم الخشبي بخفة, و لكن بحذر . أقفز إلى بلاطة السدة. أشعر بنصر صغير. ها أنا قد وصلت إلى مبتغاي لوحدي. تسلقت سابقا السلم الخشبي برفقة إثنين من أبناء عمتي. أتحرك مقرفصاً خوفاً من أن يرتطم رأسي بالسقف الإسمنتي.

 أتحرك بين الغبار و بقايا أنسجة العنكبوتات. يصطدم أنفي بالروائح. طالما تذكرت هذه الرائحة كلما أزورً كنيسة قديمة مهجورة لا يتم إستخدامها إلا للنشاطات الإجتماعية. لم تكن الرائحة محببة و إن لم تكن كريهة. تختلف الروائح مع كل حركة من حركاتي. كبريت. فونيك. ماء نار. توابل منتهية الصلاحية. شيء يشبه رائحة الإسمنت. صدأ. نحاس.

أتحرك ببطء. أتلصص على الأشياء التي رأيتها على عجل في مرات سابقة. الموعد. الشبكة. أخبار فلسطين. الصياد. أخر ساعة. روز اليوسف. الوقائع الفلسطينية. سمير. مجلات مفردة, و صفوف كثيفة أخرى من تلك المجلدة في كرتون مغلف بالأسود أو بألوان زرقاء أو خضراء غامقة مكتوب عليها بحروف ذهبية أو فضية إسم المجلة و أرقام تدل على أعدادها.

أتفقد الأشياء. تغيثني عيناي في تصفح الصور و الصفحات القديمة؛ وتمنحني السنتان, اللتان قضيتهما في المدرسة قبل هذه الإجازة الصيفية, القدرة على قراءة المجلات و الأوراق القديمة؛ و يساعدني جسدي الضئيل على خفة الحركة في مكان ضيق و مزدحم؛ و يؤثثني عمري بخيال فج و برئ يرى الأشياء عارية من دلالاتها, و مثقلة بسحر الاكتشاف.

أتلصص . صور لعبد الحليم حافظ رافعاً رأسه. أم كلثوم بمنديلها . فاتن حمامة على رمال شاطيء بالأبيض و الأسود. إسماعيل ياسين بنظرته البلهاء . عمر الشريف بلا شوارب. إعلانات. أسبرو. بوابير بريمو. ثلاجة أيديال. صندوق مكتوب عليه نصر. عبد الناصر كنقش جرافيكي على صفحات المجلة و كلوحات بالألوان على أغلفتها . أقرأ سمير و أحفظ صورته و صورة سميرة لأرسمهما فيما بعد عن ظهر قلب كأني أرسم أحرف الطباعة . أقرأ و أستمر في التلصص . الملك سعود. حلف بغداد. أحمد الشقيري. السد العالي. الإتحاد القومي الفلسطيني في قطاع غزة. الإتحاد الإشتراكي في مصر. المجلس التشريعي الفلسطيني. برج القاهرة أو وقف روزفلت. الظافر و القاهر. أشاهد صور لتشي غيفارا في غزة و في القاهرة. جان بول سارتر و سيمون دي بوفار في مخيمات اللاجئيين. تنقلني المجلات و الأوراق من دهشة إلى أخرى و من اكتشاف لأخر.

أتلصص. أنتقل من دهشة المجلات إلى دهشة أخرى و أخرى. أقلام كوبيا. دفاتر قديمة. مجلات ملونة بالإنجليزية. أكتفي بالنظر إلى الصور. أطر خشبية مشدود عليها قماش الخيش أو الحرير. شابلونات. أصابع ألوان زيت. أعشق رائحة ألوان الزيت و رائحة التربنتينا. أقلام فحم. حاويات بلاستيكية صغيرة بألوان متعددة. أتعلم عشق الألوان في عتمة السدة التي لا يبددها إلا الضوء القادم من فوهتها و من شباك قصي و وحيد و مغبر . صندوق خشبي بلمبتين و عدسة. إنه السحر. فانوس سحري. إنه السحر الذي كان يغمرنا به عمي؛ إنه السحر الذي كان يحول الصور الصغيرة إلى لوحات كبيرة الحجم و يافطات ملونة.

أتلصص. أوراق تجارة جدي.أرقام و أسماء مكتوبة بأقلام الكوبيا على دفتر اليومية و دفتر الأستاذ. تتواصل الدهشة. أوراق رسمية قديمة. مظاريف مكاتيب بحجم كبير و بحجم أصغر. أوراق مٌرَوسة. تتواصل الدهشة. يطل إسم جدي الرباعي مسبوقا بالحاج بخط فارسي متقن من الورق المٌرَوَس و المظاريف. أرى كلمات مكتوبة بأحرف إنجليزية في الجهة المقابلة للخط الفارسي. خطب جمعة مكتوبة بخط عمي الجميل على ورق بحجم الكف. أوراق كان يجب أن تذهب إلى سلة القمامة أو إلى المتاحف.

أتلصص. بوابير كاز نحاسية يبدو أنها لم تعد صالحة للإستعمال. أتحمل الغبار و الرائحة التي تنفذ إلى أنفي في سبيل دهشة أخرى و أخرى. صوت قوي يأتي من الخارج. صوت بائع ينادي على "بندورة حلوة". أستغرب. لم نكن نعرف الفرسيمونا بعد. تتواصل الدهشة. مطاحن يدوية لطحن القهوة. أواني نحاسية. روبابيكيا و خردة . أشياء رخيصة و أشياء لا تقدر بثمن . يغزو الغبار و العتمة و الرائحة و التعب جسدي الصغير , لكن التلصص و الدهشة التي لا تنضب يمنحاني القدرة لأواصل لساعات و لساعات.

يصدح صوت المؤذن بآذان الظهر. أقرر النزول على عهد بالرجوع مرة أخرى لدهشة جديدة و تلصص آخر و آخر. أتأكد أن السلم الخشبي مثبت بشكل جيد. أنزل بحذر. لا أكترث هذه المرة بالسلمة المنزوعة فهي من الدرجات السفلى في السلم الخشبي. أهبط إلى البلاط منتشاً بتلصصي.
أمشي مزهواً بنصري الصغير. لا أهتم بالغبار الذي ملأ جسدي و ملابسي. أرتطم بأمي تفتح باب الدار عائدة من العمل. تفاجئني عيناها بابتسامة لم أراهما من قبل. تغتصب أحبالها الصوتية و تزعق في وجهي بصوتٍ عالي:" إيش هذا!!؟؟ إيش اللي إنتا عامله في حالك؟؟!! " و تواصل اغتصاب تعنيفها من عينيها المبتسمتين : " روح غير أواعيك", ثم تستدرك قائلةً بهدوء: " إنتظر قليلاً حتى أحممك". ثم تواصل ضاحكة: " روح تطلع على حالك في المراية". تضع إناء الماء على بابور الكاز. أنظر إلى وجهي و ملابسي في المرأة و قد غزاهم الغبار. لا أكترث و أعاهد نفسي بغزوة تلصص أخرى في السدة.

تغلي الماء. أقف عارياً في صحن الغسيل. تضع الماء الفاتر على رأسي. تفرك رأسي بصابون الشكعة. تدعك جلدي بإسفنجة ناعمة بعد أن تعركها بصابون برائحة اللافندر النفاذة . أنظر إلى الماء العكر الرمادي الذي تجمع في صحن الغسيل. نظفتني من غبار السدة, لكنها لم تنظفني من الذكريات و من التلصص ؛ من التلصص على كل شيء ؛ على نفسي و على الذكريات. و ها أنا أواصل التلصص و سرد الذكريات بدون أية حكاية و لا أي معنى .
12/05/2018 
edited one year later 

ليست هناك تعليقات: