05‏/12‏/2018

غصنا الزيتون و الكرة الأرضية


تخونني ذاكرتي. لم أعد أذكر إن كنت في صفي الثاني أم الثالث, لكنني متيقن أن المدرسة أصبحت, في ذلك العام, أكثر نصعه و بهاءً. أصبحت أكثر بياضاً.

نخرج من غرفة الصف إلى المعرش المسقوف بالإسبست. نتحرك بنشاط تحدده خيزرانة المدرس و نظراته الصارمة. ندخل المُعَرَشْ. نلتحق ببقايا الطلاب الذين سبقونا إليه . تنظم حركتنا الفواصل الحديدية المطلية باللون " الرسمي" , بالأزرق السماوي الصادم.


نتحرك. أتناول كوبا قديما و نظيفا من الألمونيوم. نصل إلى رجل يرتدي مريولاً أزرقاً غامقاً. يضع الرجل كمامات بيضاء على أنفه و فمه. أمسك كوبي بيدي اليمنى. أمد كوبي المعدني الفارغ نحوه. يملأ الرجل ذو الكمامات البيضاء الكوب بالسائل الأبيض. المدرس بشواربه الكثيفة يضع كبسولة زيت السمك في يدي اليسرى. أرتشف السائل. أشعر بالغثيان. أفرغ السائل الأبيض في أحشائي كمن يتناول شراب السعال الذي توزع عيادة الوكالة.

يسكب بعض أقراني السائل الأبيض على أرضية العرش. يغامرون بتلقي ضربات الخيزرانة على أجسادهم النحيلة. أسكب السائل في أحشائي. أواظب على الغثيان. أبتدع طريقة جديدة للتخلص من السائل الأبيض بدون أن أغامر باحتمال تلقي العقاب. أنظر حولي. أناول الكوب المملوءة بالشراب الأبيض لأول طالب حولي أنهى شرب كوبه. أستلم كوبه , الذي أفرغ محتواه في جوفه, مع كبسولة إضافية من زيت السمك.

يتكرر الموقف في الحصة الأولى من كل يوم. إعتاد على التخلص من السائل الأبيض, حتى يجيء اليوم الموعود.


نخرج من الغرفة المسقوفة بالباطون وراء مدرس الصف. نهرول خلف المدرس الذي تحين فرصة توقف زخات المطر. ندخل المعرش. ألاحظ الفوضى . ثمة لجةً و ازدحاما في المعرش. أرصد أنظار المدرس تتجه نحوي. لم أستطع مبادلة كوبي بكبسولة زيت سمك إضافية. أرتشف السائل الأبيض من الكوب المعدني . أشعر بالغثيان. أرغب بالتقيؤ. تتجه نظرات المدرس نحوي. إرتشف رشفة أخرى من السائل الملعون. يتحرك المدرس بعيدا عني. أصب السائل الأبيض على أرضية الغرفة المبللة بالوحل. أضع الكوب المعدني الفارغ في المكان المخصص. أتممت جريمتي الصغيرة بإتقان محكم. أشعر بنصر صغير.


أفكر في الموقف. أحتار كيف سأتصرف في اليوم التالي. أسأل نفسي إن كان أحداً قد وشى بي للمدرس. يمر اليوم التالي بدون أن يقودنا المدرس إلى المعرش. كان الجو ماطراَ. اعتبرت أن الشتاء كان هو المانع لاقتيادنا إلى المعرش .


تمر الأيام. يتوقف المطر . تشرق الشمس. لم نعد نذهب إلى غرفة الحليب. لا أعرف إن كانت لجان اللاجئين احتجت على إغلاق غرفة الحليب. لا أعرف إن كانت الصحافة تحدثت عن تقليص خدمات الأونروا . لم أشعر بنبوئتي عندما خلطت الحليب بالوحل الذي كسا أرضية المعرش. تحولت غرفة الحليب إلى غرفة للعلوم. مختبر صغير يحتوي على دوارق و مواد كيمياوية و سوائل ملونة.

تخلصت المدرسة الإبتدائية من واحدٍ من طقوسها المعتادة: الجرس. طابور الصباح. الفرصة. عصا الخيزران التي يلوح بها معلم الصف بشواربه التي تشبه شوارب أبو عنتر . السبورة السوداء . الطباشير البيضاء . الطباشير الملونة التي تظهر عندما يزورنا ضيف يجلس على كرسي موازٍ للمقعد الأخير في الصف. الدفاتر المزينة بالكرة الأرضية محاطة بغصني زيتون.

فقدنا كوب الحليب. استبدل المدرسون عصا الخيزران بالبرابيج المطاطية التي يطوونها في حقائبهم, حتى لا يتركوا أي أثر لاستخدام لعقاب البدني. فقدنا كوب الحليب و وجبة زيت السمك و ظل غصنا الزيتون يزينان الكرة الأرضية في شعار الوكالة بدون أن ننعم بهما.




ليست هناك تعليقات: