05‏/12‏/2018

خمسة أفلام بتذكرة واحدة





أحب السينما لكن لا سجاجيد حمراء في غزة.


يداهمني الحدث. أضغط على أيقونة الفيس بوك " Going" بانني ذاهب إلى " event" الحدث. سيفرشون سجادة حمراء على مرسى الصيادين. لكن لا سجاجيد حمراء في غزة. دمائنا هي الوحيدة التي تشبه اللون الأحمر. الأرض هي وحدها الحمراء هنا. الأرض قرمزية بلون الدم المسفوك بعد أن ينشف على الرصيف.


أفكر جدياً بالذهاب.أحب السينما. أحب صالاتها المعتمة. أهرب من الأضواء الساطعة. تثير حنقي الإعلانات التجارية التي تمتلئ بها النصف ساعة الأولى للعرض. أكره الحشود.


أحب السينما . أشاهد " أطفال إرنا" في قاعة مكتظة بالمقاعد الفارغة قبل عقد و نيف في مينيابوليس.


في موسكو شاهدت أول فيلم هناك بالفرنسية بدون أن أفهم أي كلمة لكن جان بول بولماندو كان رائعا كما كن الروسيات و هن يتحدثن عن " السوخوي زاكون" أو " القانون الجاف" عندما رفع " ميخائيل سيرجيفيتش" غورباتشوف سعر زجاجة الستولشينيا من روبل و أربعين كبيكاً إلى عشر روبلات مرة واحدة. لقد قنن السكرتير العام السباحة في أنهار الفودكا التى كانت تنعم بها جنة الإشتراكية السوفياتية. يالها من حماقة أرتكبها نصف سكير لم يكن كسابقيه قد أصيب بعد بالخرف.


أحب السينما . أدخل السينما لأول مرة بتذكرة مجانية في المدينة التي تحتفي بالريح و بالنبيذ و بالإمام شاميل , لرؤية فيلمين مع مدرسة اللغة و رهط من الطلبة الذين قدموا لدراسة الطب. أفسد علينا الدبولاج " رؤية " عودة الإين الضال" ليوسف شاهين , لكن صوت ماجدة الرومي كان أقوي من صخب الترجمة الرديئة؛ أما عن القايكينج فلا تحدث؛ فلقد كانوا سادة المشهد الذي لم نفهمه حتى قبل ال" Brave Heart ".


أحب السينما . أشاهد سبارتاكوس في سينما صيفية مكشوفة عندما سافر كل الطلبة إلى أهلهم بعد سنة اللغة و بقيت وحدي أقتل الوقت بقراءة كتب دار التقدم و رادوغا. كنا نمشي متعانقين في الطريق الهابطة إلى بحر قزوين فندلف إلى السينماتيك, الذي لا يعرفه أحد, حتى قبل الوصول إلى الفيلوهرومونيا المهملة في مدينة لا تحتفل إلا باللزجينكا. أشاهد فيلما بالأبيض و الأسود عن نضال السود في جنوب أفريقيا. أهرب من برد شمال أمريكا إلى " يوميات دراجة " نارية عن طالب الطب الأرجنتيني " العزيز جيفارا" قبل أن يضحى أيقونة مقتولة برصاص السي أي إيه في بوليفيا و على أيدي بيروقراطية البروليتاريا في هافانا.


لا سجاجيد حمراء في غزة. رطوبة الجو كفيلة بقتل الحدث. عربة يجرها حمار كفيلة بأن تجعل المشهد أكثر سريالية. مدير مركز حقوق الإنسان سيضرب عصفورين يبضان ذهبا بحجر واحد من الخفاف. سيزداد رأسماله الرمزي على رأي بوردو بعد أن يحفر إسم بيلفور على قماش تدوسه الأقدام. و سيجلب تمويل الممولين لأحلامه و احتياجاته التي تنتهي.


أحب السينما. أفكر بالذهاب إلى السينما . أصطحب صغيرتي إلى أفلام الرسوم المتحركة في إدنبرة. تحب السينما كما أحببتها. أصحبها إلى قاعة العرض عندما عرضوا الزوتوبيا في غزة. لا شيء يشبه السينما هناك. جهاز كومبيوتر يبث الصور المتحركة على شاش من القماش لا تشبه بأي شيء السينما. حتى ذرة الفشار بدلوها ببذور عباد الشمس. أتذكر الكونياك في روسيا البيضاء بعد مشاهدة " التوبة", و لا أنسى العجوز التي أخبرتنا في نهاية الفيلم الجورجي أنه ليس هناك خير في طريق لا تقود إلى المعبد.


أحب السينما. يأخذني والدي لحضور فيلم الرسالة في سينما النصر عندما كنت الصفوف الابتدائية الأولى. الكل يشير بالبنان إلى مصطفى العقاد مخرج الفيلم السوري. عندما كدت أن ألتحق بكلية الهندسة ربطت بين الفيلم و مبنى عمر العقاد في الجامعة التي نبتت بين الصخور . يذهلني الفيلم لكنني أتقزز من منى واصف و هي تأكل كبد حمزة.


لا سجاجيد حمراء في غزة. أكبر قليلاً. كان أقراني قادرين في العيد على شراء تذكرة لحضور خمسة أفلام أو المواصلة إلى منتزة البلدية حيث يتجمع أشباه حواة و مشاريع نصابين ليجمعوا عيدية الأولاد الأبرياء . في إجازة الصيف, يذهب من يكبرنا قليلا إلى سينما النصر يوم السبت بعد أن يجمعوا غلتهم الأسبوعية من العمل في الموشافات.


لا سجاجيد حمراء في غزة. نمشي الطريق الطويلة من الحارة إلى السينما. كانوا جميعا يكبرونني سناً بثلاث صفوف دراسية على الأقل . كانت بنيتي الجسدية لا تختلف كثيراً عن بنية أقراني أو هكذا يبدو. سينما النصر تتوسط المدينة, و بالنسبة لنا كانت على مشارف نهاياتها. وصلنا إلى السينما. ننتظر الاستراحة بين الأفلام. نقف في الشارع على مدخل قاعة العرض. نحدق في أفيشات الأفلام. بروسلي يقوم بحركات يديه المعهودة. شفاه منفوخة. صدور نافرة. سيقان عارية. فتيات بالبكيني على شاطئ البحر. فاتنات من الهند. يحرس رجل بدين مدخل قاعة العرض. يخرج مرتادو دار العرض من القاعة. يشير الحارس البدين إلى خمسة من أقراني بالدخول. أحاول الدخول معهم, فيمنعني بحزم. أنتظر بالخارج مع أخرين. يغيب الحارس البدين قليلا عن المدخل. أنتهز الفرصة. أتسلل إلى قاعة العرض المظلمة. يناولني أحد أقراني مكنسة طويلة. ننظف بلاط قاعة العرض من الأتربة و القاذورات و أعقاب السجائر. أختفي بين أقراني في الظلام. ننتهي من تنظيف قاعة العرض. يبدأ مرتادو السينما بالدخول. نضع مكانسنا جانباً و نختفي تحت المقاعد الخشبية للقاعة طبقاً لإشارة الحارس البدين. يجلس الرواد على مقاعدهم. نوزع أجسادنا على المقاعد الخشبية الشاغرة. نشاهد بروسلي. يصدح عبد الحليم في فيلم بالألوان ألتقط في جبال الأرز. إمرأه بملامح صينية و بصدر نص عارٍ تجلس على أريكة بينما يلتقط رجل بشوارب رمانة من صحن كبير ممتلئ بالفواكه على طاولة صغيرة ترقد أمام الأريكة. كل شيء يحاول دغدغة التيستيستيرون في دماء المشاهدين.


أحب السينما؛ و غزة فيلم أمريكي طويل.


أدخل المرحلة الإعدادية في نفس مبنى مدرستي الإبتدائية. أسعد الصفطاوي يعمل نائباً لناظرة  مدرسة البنات الإبتدائية المجاورة. السعودية تتبرع بإنشاء المجمع الإسلامي. ضابط الركن يقص شريط الافتتاح. الشيخ أحمد ياسين يتحرك بدون كرسي متحرك؛ مريدوه يساعدونه على الحركة. أبو وردة يموت مقتولاً في جباليا. المدرس الخارج من السجن بعد سنين متهم باختلاس ثلاثين ألف جنيه إسترليني. يتحدثون في غزة عن جامعة . حيدر عبد الشافي يريدها باسم الإمام الشافعي. نخرج من المدرسة قبل حصتين من موعد انتهاء الدوام المدرسي في الفترة المسائية الثانية. يتجمع أقراني أمام مدرسة البنات. ألتقط عن التراب منشورا بدون توقيع. لجة في الشوارع. أذهب إلى المسجد الخالي من المصلين لصلاة العصر و أعود أدراجي إلى البيت. يخرج أقراني مشياً على الأقدام إلى مكتبة الهلال الأحمر. يحرقون بعض مصاحف القرآن مع كتب لينين و ماركس. يخربون متجر الكحول الوحيد في غزة. الجنود المنتشرون في شوارع المدينة يراقبون المشهد عن كثب و بحياد كامل. أبو صبري يصول و يجول في المدينة. يحرق أقراني سينما النصر.


لا سجاجيد حمراء في غزة. أكبر و يكبر أقراني. أغترب و أتغرب. يلتحق أقراني بجامعة غزة التي تصبح إسلامية. يُبعدون. يُعتلقون. و يكبرون, يملئون الفراغ. يستولون على السلطة و الحكم في غزة. يصبح أقراني قادة. وزراء. يحرسون البلد أو السجن من السلك إلي السلك. لا سينما بغزة في زمانهم و لا إضاءة. يدخلون البلد في ثلاثة حروب بتذكرة واحدة, و لا نعرف متى ستأتي الحرب الرابعة.





ليست هناك تعليقات: