05‏/12‏/2018

خليل شعث عالم ذرة في غزة


كأنني في فيلم جيد الإخراج و التصوير تم إنتاجه في السبعينات. مثل تلك الأفلام الإيطالية و الفرنسية التي كان تظهر فيها صوفيا لورين في السبعينيات و أوائل الثمانينيات. الألوان تستحق السعفة الذهبية في كان أو الدب الذهبي في برلين. الطقس  رائع . ربيع مقيم, بالرغم من عدم وجود مكيفات و لا دفايات. هواء البحر المنعش يملأ أنفي. لم تختلط  رائحة المجاري بهواء البحر الذي يملأ المكان بالحياة 


أدخل المركز الصحي. مبنى المركز قديم , لكنه نظيف. لم تكن القابلات أو الممرضات  يرتدين أغطيةً لرؤوسهن. كن وقورات للغاية. بعضهن يلبسن مراييل بأكمامٍ قصيرة. كان بياض المرايل مائلاً قليلاً إلى الاصفرار مع فعل الزمن و الغسيل او نوع تظهير الفيلم .وجوههن سمراء.  تنبض وجوههن  بالحيوية و الدم. الأثاث مستورداً من اليابان و أمريكا و السويد و من كل دول العالم الصناعية. لن أستغرب لو قال لي أحدهم أن هذا الجهاز من يوغوسلافيا أو من تيشكوسلوفاكيا


بالرغم من كل ذلك, فثمة شيء غريب في المركز الصحي. أول ما لفت انتباهي عند تعييني كطبيب في المركز الصحي هو ذلك الميزان الذي كانت تقف عليه السيدات الحوامل. الميزان  مصنوع  في ألمانيا, أذكر ذلك جيداً. إن لم تخنني الذاكرة, فلقد كُتب عليه seca باللون الأحمر . كان الجهاز دقيقاً و متيناً مثل كل شيء قادم من ألمانيا


النساء الحوامل وديعات. ينصعن لأوامر القابلات و الممرضات, بالرغم من أن العاملات الصحيات لا يعاملهن على أحسن وجه. أنتم تعرفون ضغوط العمل التي يتعرضن لها في المركز الصحي. يتعاملن مع النساء الحوامل بشيء من الغطرسة و الخشونة, لكن الحوامل كن مثل الملائكةٍ القادمات  من زمنٍ سحيق . كأنهن جئن  من تلك الصور التي كانت تطبع بالأبيض و بالأسود. السيدات الحوامل يدخلن إلى غرفة الفحص, حيث يقبع ميزان seca فرادي أو جماعات. غرفة  الفحص الواسعة تحتلها غالباً  خمس إلى سبع نساء. ثلاث إلى خمس سيدات حوامل و سيدتان بالمراييل البيضاء. النساء الحوامل حافيات. لا َ يرتدين لا شالة و لا بندانة, لكن رؤوسهن متوجات بطرحاتٍ من السيتان الأبيض . أعناقهن عاريات  ببراءة وعفةٍ كاملتين. يلبسن أثواباً سوداء مثل تلك التي تظهر في أرشيف صور النكبة


يبدو  المركز الصحي كأنه  مفاعلٍ نووي قديم تم تشييده في الخمسينات أو في الستينات. أبدأ بأتعرف على المركز الصحي. تفقدته في اليوم الأول لمزاولتي العمل فيه. دخلت إلى غرفة فحص الحوامل. لم ينتبه أحد لي . لم يكترثوا بي.  الممرضات و القابلات يقمن بعملهن بكل و إخلاص و جد. شغالات في خلية للنحل. يعملن  كأنهن في غرفة لتخصيب اليورانيوم في بيونغ يانغ. كل شيء يتم على خير ما يرام.

جل عملهن منصب على توزين السيدات الحوامل. قد لا يكون هناك شيئاً غريباً في كل  ذلك. لكن الميزان نفسه, المصنوع في ألمانيا, يتصل بوعاءٍ أبيض غير شفاف. الوعاء متقن الصنع ليوحي لك أنه تم تصنيعه أيضاً في ألمانيا. الممرضات و القابلات يقمن بتوزين السيدات الحوامل بسرعة فائقة و بمهنية عالية. لكن عندما يأتي الأمر إلى الوعاء البلاستيكي الأبيض المتصل بالميزان الألماني الصنع , فإنهن يتحولن إلى عالمات ذرة. تضع أحداهن يدها في جيب مريولها الأبيض. تخرج منه بيضةً بخفةٍ فائقة. ثم تضع البيضة في الوعاء البلاستيكي الأبيض المتصل بالميزان الألماني. تُستَفز كل حواس العاملتين الصحيتين و تستمران في مراقبة الوعاء الأبيض . ينظرن إليه من الأعلى إلى الأسفل . لم يتسنى لي معرفات محتويات الوعاء, لكنني تذكرت أمي عندما كانت تفحص ملوحة الماء بالبيضة قبل تخزين الزيتون

أدخل المركز الصحي كأني قادم من كوكب أخر. المركز الصحي ينتمي إلى عالم أخر. عالم نظيف و هادئ. مركز صحي بدون اكتظاظ أو زُحام. جدران المركز الصحي مطلية بلونٍ أصفر محروق كصفار البيض البلدي في الأسفل و بالشيد الأبيض في أعالي الجدران و في السقف. كل شيء على ما يرام في المركز الصحي, لكن ثمة شيئاً غريباً يحدث هناك.  لا تذهب  سيارة العيادة إلى السوق لإحضار المشتريات لحكيمة العيادة و مديرها.  كل الإشاعات التي سمعتها كانت  مغرضة. أستطيع أن أقسم أن كل الإشاعات كانت مغرضة. أستطيع أن أقسم بأنني لم أرى لا مدير العيادة, و لا مدير الصحة خلال أكثر من عشر سنوات عملتها في المركز الصحي. أستطيع أن أقسم أنني لم أستمع إلى مدير الصحة و هو يتفاخر بنفسه و أنني لم أشهد غطرسته التي يتحدث عنها الجميع. لم تكن أم إياد تقوم بفحر الكوسة و لا بتقشير السمك و لا بتلقيط الملوخية في العيادة. كان كل شيء على ما يرام

في المركز الصحي تعرفت على أفضل زملاء في العمل. يكفيني الدكتور أبو أسامة. كان على عتبة الخمسين من عمره . طويل و عريض المنكبين . سرعان ما ترتعب عندما تراه من بعيد بشعره الأبيض و جسده الضخم الذي يوحي بأنه يعمل حارس شخصي لدونالد ترامب, لكنه سرعان ما يفاجئك بضحكته الودودة التي يتفوق بها على يحي الفخراني

بالرغم من ضخامة جسده كان يحمل قلب طفل. تصادقت مع الدكتور أبو أسامة الذي كان يتحفني بالنكات و الطرائف. كان لا يترك لا نانسي عجرم و لا أليسا و بالطبع هيفاء وهبي في حالهن. نكون في نقاش جدي , ليكسر كل تشنجاتنا: " أطبطب ... أدلع... " و يأخذ بالغناء العذب. كنا نذهب لتدخين السجائر سويةً في الساحة الخلفية للمركز الصحي في نهايات أيام العمل عندما ينقطع تدفق المراجعين إلى المركز الصحي, بينما كنا نختلس التدخين في غرفنا أثناء الوقت المتبقي من النهار.

في أول مره ذهبنا للتدخين في الساحة الخلفية للمركز الصحي اكتشفت شيئاً غريباً. شاهدت مخطوطاً كبيراُ مكتوباُ بدهان السبراي الأحمر بخطٍ ردئ و لكنه كان واضحاً و مقروءاً : " خليل شعث عالم ذرة". لم يكن ذلك شيئاً غريباً. كانت أغلب جدران المؤسسات العامة في قطاع غزة تحفل بكتابات خليل شعث. مرةً خليل شعث عالم ذرة و مرةً أخرى خليل شعث هو الذي أخرج قوات الاحتلال من غزة و مرة ثالثة خليل شعث مرشح للمجلس التشريعي و رابعة للرئاسة و هكذا دواليك. لم يترك خليل شعث جداراً من جدران القطاع إلا و طرزه بجمله المفيدة. لم يكن ذلك مهماً

لمحت بعض الدجاجات الملونات بالأسود و بالبرتقالي. كن يتحركن في فناء مسيج في الساحة الخلفية للمركز الصحي. كان هناك قن تستظل فيه الدجاجات من حر الصيف و تأوى إليه في برد الشتاء. ثمة حظيرة متكاملة للدواجن البلدية في الساحة الخلفية للمركز الصحي. سألت الدكتور أبو أسامة عن الحظيرة فأجابني و كأنه لا يريد الإجابة : " بيربوا جاج... سيبك منهم". 

تأكدت أن شيئاً غير طبيعي يحدث في المركز الصحي. تساءلت مراراً عما يحدث. لماذا يتم إستخدام البيض البلدي في توزين السيدات الحوامل؟؟ ما ضرورة وجود حظيرة للدجاج البلدي في الساحة الخلفية للمركز الصحي؟؟ راوغوني قليلاً ثم أفادوني أنها تعليمات من غزة ننفذها هنا في رفح بدون أدنى نقاش. عندما أصررت على الإستفسار و إستمريت بالاستهجان أفادوا مرة أخرى أنها توجيهات تقنية موجهة من بيروت و من فيينا و من عمان على مدى عشرات الأعوام, و أن كل هذه التوجيهات التقنية مبنية على الأدلة و البراهين التي تتبناها المؤسسات الدولية في جينييف أو في نيويورك. واجهوني بالكثير من الكلام المنمق

لم أقتنع أبداً بكل ثرثراتهم و حججهم. في النهاية آثرت الصمت بدون أن أساهم في الخطأ. قد لا يضيرني كثيراً وضع البيضة البلدية في الوعاء البلاستيكي المتصل بميزان سيكا. لن تضيرني حظيرة الدجاج البلدي. كل ما فعلته هو أنني رفضت أن أخذ شيئاً من البيض البلدي الذي يتم توزيعه أحيانا على الموظفين بعد استعماله في توزين السيدات الحوامل بدلاً من إتلافه أو رميه في النفايات. كل ما فعلته هو انني واصلت البحث في المراجع الطبية عن أهمية توزين السيدات الحوامل بإستخدام البيض البلدي

عشت أكثر من عقد بدون أن أرتاح في المركز الصحي. لم تكن أم إياد تحفر الكوسا. لم تكن تلقط الملوخية و لا تنظف السمك. لم تكن سيارة العيادة تذهب إلى السوق لإحضار المشتريات لحكيمة العيادة و مديرها. لم أكن مرتاحا بسبب البيض البلدي و الدجاجات التي كانت تشبه الدجاجات البلدية التي كانت تربيها جدتي. لم أكن مرتاحاً بسبب التوجيهات التقنية القادمة من جنييف و من نيويورك

مرت السنوات. كبرت و كبر معي حزني. كبر الدكتور أبو أسامة. مرت أكثر من عشر سنوات. ظللت أوده. حافظنا على صداقتنا. إستمر بتسليتي ببث نكاته الطازجة. صوته العذب. قفشاته اللطيفة. خفة دمه. واصلنا تدخيننا للسجائر في الساحة الخلفية للمركز الصحي علناً و في غرفنا سراً. الكل كان يتحدث أن أبو أسامة لم يعد كعادته. لم تعد نكاته كالسابق. صار حزيناً أكثر. لم أشعر بذلك. كان نسمة الهواء التي تمر على الهواء اللزج الذي يملأ الفضاء

كنت سعيداً و جذلاً. كنت منتشياً و كأنني انتصرت على كل طواغيت الكون بالصبر و بالمثابرة. نظرت إلى وجه أبو أسامة. كان وجهه برونزيا كأنه خرج من فيلم سكوب تم تصويره في الستينات لأحمد رمزي. كان منتفخاً. لا أعرف إن كان ذلك من أثار بروتين البيض البلدي الذي كان يتناوله, أم أنه نتيجة لضعف ما في عضلة القلب. ظهرت التجاعيد في وجهه المنتفخ. نظرت إلى عينيه. رأيت ذبول الضحكة البريئة فيهما. نظرت إلى شعره. صبغة الشعر الأسود حلت مكان الشيب. نظرت إلية. بعد أيام سيبلغ الستين, و في نهاية الشهر سيتم إحالته للتقاعد. نظرت إلي عينيه الخجولتين. قلت له : ها هم قد عدلوا التوجيهات التقنية المبنية على الأدلة و البراهين

كدت أن أقول له لقد أنفقت عمرك يا دكتور أبو أسامة و أنت تمتثل للتوجيهات التقنية القادمة من غزة و من عمان و من بيروت و من فيينا و من جنييف و من نيويورك و من كوبنهاجن و باريس لتنفذها أنت في رفح, و ها هي التوجيهات يتم إلغائها لأنها كانت خاطئة, لكنني بلعت لساني

واصلت المكوث  في فراشي الدافئ. غططت في النوم. استيقظت على صوت المنبه. ذهبت إلى الطاولة. فتحت اللابتوب. ضغطت على فرنسا 24. بالغ يقتل 17 طالباً في فلوريدا. إعتقال هشام جنينة و أبو الفتوح في القاهرة بعد إحتجاز سامي عنان. فضيحة أوكسفام في تشاد و في هايتي. تهم الرشوة تلاحق نتانياهو. تأجيل محكمة عهد التميمي. الحرب في سوريا تأخذ حصتها المعهودة من نشرة الأخبار. فتحت على الفيس بوك. صور لتراكم النفايات في مستشفى الشفاء. لم ينتبه أحد إلى أن خليل شعث عالم ذرة في غزة.



ليست هناك تعليقات: