05‏/12‏/2018

صيف غزة الطويل



تبدأ عطلة الصيف. يعود عمي و عائلته إلى غزة ليجدد تصريح زيارة زوجته و ليسجل أبنه الأخير في هويتها. يهديني عمي ساعة يد كاسيو إليكترونية مصنوعة من البلاستيك. كم فرحت بالساعة. كنت قد فقدت ساعة السيكو المعدنية التي أهداني إياها جدي , بعد أن وجد إسمي مكاناً له في لائحة شرف المتفوقين في امتحان إتمام الدراسة الابتدائية. وضعت الساعة بجوار حنفية المتوضأ في المسجد و نسيت أن أرتديها بعد الوضوء. عندما تذكرت الساعة بعد إداء الصلاة, عدت إلى المتوضئ و لم أجد الساعة. كذبت على نفسي و قلت أنهم سرقوها من بيت الله كما يسرقون أحذية المصلين. بدأت بالتكاسل عن الإكثار في التردد على المسجد . قلت قراءاتي لكتيبات عبد الله عزام و فتحي يكن الصغيرة التي كنت أستعيرها من مكتبة المسجد المتواضعة.


نذهب إلى شاطيء الشيخ عجلين. يحدثنا عمي عن طرطوس و جزيرة أرواد. أسند رأس أبنه الأصغر على كتفي بيد و أمسك يد الأكبر باليد الأخرى. يؤشر الأكبر إلى ثلاجة المشروبات الغازية في البقالة. لا أعرف ماذا يريد. يؤشر إلى زجاجة يملأها سائل برتقالي و يقول أنه يريد أن يشرب " كرانش". أشتري له زجاجة " ستار". يذهب عمي لمقابلة ضابط المخابرات. يسأله عن المواقع العسكرية في الطريق إلى درعا. لا أعرف إن كانت حرارة الصيف هي التي حسنت التقاط بث التلفزيون المصري, أم أن المصريين نشروا مقويات لاستقبال البث التلفزيوني في شمال سيناء التي استعادوها قبل أسابيع قليلة . نستمتع بالفرجة على اليوم المفتوح و " مصر اليوم في عيد" .


التلفزيون المصري يبث خبر محاولة اغتيال ديبلوماسي إسرائيلي في لندن. الجنود يخرجون شمالاً من الجليل. يرتب عمي حقائب السفر خوفاً على عمله في مشروع سد الفرات. يخاف من أن تقطع قوات جيش الدفاع الطريق بين دمشق و حلب. ينقل مذيعو هيئة الإذاعة البريطانية من لندن الأخبار بتؤدة و رصانة مفرطتين بعد أن يضعونها في الثلاجة ليوم واحد خوفاً عليها من حرارة الصيف كما يخافون على وجبة الغذاء. تتساقط القنابل العنقودية و الفراغية على البنايات في الفكاهاني. يستمع أبي و عمي إلى الترانزيستور في غرفة الضيوف. يخشون ألا تستطيع أختهم و أبناءها الهرب من البناية إلى الملجأ . ينفجر والدي من البكاء. أذهب مع عمي إلى سوق الزاوية. يشتري سمكاً مملحاً و مسحوقاً للغسيل يعيد تفريغه في عبوة تخلو من الحروف العبرية. يقضي عمي أقل من أسبوع في غزة و يعبر الجسر و لا نراه لخمسة عشر عاماً متواصلة.


أنتزع خريطة لبيروت من الغلاف الأخير لمجلة "البيادر السياسي", ألصقها على الحائط المحاذي لسريري الحديدي. أنكب على كتاب سميك لإميل توما لتلخيصه في دفترِ "الطالب" من أربعين ورقة. أختلس جهاز المسجل و الراديو من والدي عندما يغط في قيلولته. ترقص روحي على غناء رشيق لطفلة " غسل وجهك يا قمر بالصابون و بالحجر". المذيعات يجلسن أمام الميكرفون بالبيجامات. أتابع الأخبار على أثير راديو مونتي كارلو. المذيعات يشربن النبيذ الفرنسي بينما أستمع إلى وصلة دعائية قصيرة: " نكهة أكثر و نيكوتين أقل". العالم يتابع مباريات كأس العالم في إسبانيا و على شاشات التلفزيون.


عينا جدي و عكازه الخشبي لا يساعدانه على الذهاب إلى المسجد بثقة. يطلب مني والدي أن أذهب مع جدي إلى المسجد. أذهب ممتعضاً أو مسروراً, لا فرق. يؤم جدي بالمصليين. أصلي خلف جدي صلاة الجماعة. ألاحظ أن المصليين يحرصون أن يضعوا أيديهم على صدورهم و أن البعض يضعها بالقرب من القلب, و أنهم يقربون أرجلهم إلى بعض حتي لا تكون مسافة بين الأخمص و الأخمص. يلعب أقراني تينس الطاولة في المسجد و يشجعون فرق كرة القدم المتبارية في كـأس العالم, أما أولائك الذين كانوا يكبروننا, و الذي كان بعضهم إلتحق بجامعة غزة الإسلامية, فكانوا يتناقشون في فقه الصور الفوتوغرافية و بطاقات التعريف الشخصية.


أهرب من المسجد إلى نشرة الأخبار. أقارن ما أسمعه بالمواقع المرسومة على الخريطة الملصقة على الجدار: الأوزاعي, خلدة, المتحف, جاليري سمعان , الملعب البلدي, المدينة الرياضية, الضاحية الجنوبية, المطار, البرج,.... لم تسعفني الخارطة بمعرفة موقع بطاريات الصواريخ السورية. أقرأ في جريدة الأهالي المصرية كيف تسلل ناجي العلى من الجنوب إلى بيروت ؛ كيف هرب من الجنود و من عيون المخبرين إلى الصفحة الأخيرة في جريدة السفير. أرى صور نادية لطفي بالنظارة السوداء و أسمع أن يوري أفنيري قد تقاعد من الخدمة في جيش الدفاع ليقابل ياسر عرفات . أتنقل بين محطات الراديو لأقتنص أسطورة, معجزة أو حتى نصر صغير. جيش الدفاع يتكبد الخسائر على أيدي أطفال الأربيجي. جدتي تحدثني عن خوفها على خالي من الانتقام بينما كان يعمل في كريات جات في إجازة الصيف. الصيف ثقيل و بطيء. يجيء خالي بشريط كاسيت لفرقة العاشقين. شوارع المخيم تغص بالصور. فيليب حبيب يواصل جولاته المكوكية بين العواصم. إلياس سركيس يقضي أيامه الأخيرة في قصر الرئاسة. النساء ينثرن الرز على رؤوس المقاتلين. الرصاص يعانق السماء. فرقة مشاة راجلة من جنود الرائد سعد حداد تتمركز بالقرب من المستشفى الإنجليزي في ساحة التاكسيات. المقاتلون يركبون البحر في سفن إغريقية و تل أبيب تختار ساكنا جديدا لقصر بعبدا.



تنتهي إجازة الصيف و نعود إلى المدرسة و يطل رونالد ريغان علينا في الصباح من صوت أمريكا لينعي فلسطين. يمر الوقت ثقيلا و بطيئاً. يطلب مذيع التلفزيون الأردني المشاهدين بإبعاد الأطفال عن رؤية الصور التي تخدش ما تبقى من إنسانية البشر. يخرج الذباب ثقيلاً من شاشة التلفاز. يتلقي والدي بالبريد نسخ مجانية من التايم و النيوزويك. أنظر إلى الصور الملونة لحدث لا يمكن له إلا أن يكون بالأسود و الأسود. يقرأ لي والدي أن البلدوزر كان يراقب القتلة بالمنظار من مقر أركانه. المتظاهرون يغسلون رموشهم من الدم في ساحات تل أبيب. المتظاهرون يتشبثون بأفران الغاز. أخاف على ساعة اليد من المتوضأ. أقراني يلعبون التينيس في مسجد الإمام الشافعي. يصعقني أقراني, يصعقني بطلي " جيفارا غزة" حين يتكلم من حنجرة سَميِه , من حنجرة زميلي في الصف, ابن أخيه, الذي كبر ليرتدي الجلابية الباكستانية ويردد: "جيفة". يغيب جدي و والدي و أخته و أخيه و ما زلت أرنو لزيارة أخرى لشاتيلا.



ليست هناك تعليقات: