17‏/05‏/2019

إسماعيل يعود حافيا إلى الجنة

كنت في صغري ملتصقا بعمي اسماعيل. كنا نسكن في بيت مستأجر به سبعة غرف و قاع دار بها نخلة باسقة. كان لعمي غرفة بها مكتب يمارس عليه الرسم باقلام الفحم و الأحبار و كان بها فانوسا يصنع به سحرا شبيها بما يفعله الفنانون البصريون الٱن ببرامج الكومبيوتر.

كنت اتمسمر على كرسي بالقرب من عمي في اخر الليل عندما يذهب الجميع إلى النوم. كان يتسلى بالرسم أو يقوم بعمل تصميماته و رسوماته  للمجلات القليلة  التي كانت تصدر آنذاك  في غزة و لإعلانات تجارية كانت تجلب له مزيدا من الرزق . كنت اراقبه و هو يرسم و يصمم أغلفة المجلات و الاعلانات. كان عمي اسماعيل ينثر علي القرشلة و القضامة كما كان ينثر علي حكايات من زمن بعيد. لم اكن اسمع مثل هذه الحكايات من والدي. الهجرة كانت أقصى كلمة من الممكن أن أسمعها منه، فلقد هاجر جدي و أسرته من المجدل بينما كان عمر والدي خمس سنين و عمر عمي إحدى عشرة عاما.

كان عمي يحدثني عن النول و المسدية و طقوس صناعة النسيج في البلاد؛ عن البيوت القديمة و وادي النمل و اربعة ايوب و ضريح الحسين؛ كان يحكي لي عن سيده الحاج حسين و سته الحاجة فاطمة و عن الحاكورة و الضباع و بنات أوي ؛ كان يحدثني عن ليرات الذهب، و كان ينثر ببساطته و براءته على الكلام الكثير من السحر. 

لم يذكر لي عمي كل الحكاية. خرج جدي من المجدل في بدايات نوفمبر / تشرين ثاني من تلك السنة المشؤومة . كان المصريون يؤكدون أن الأمر هو مجرد انسحاب تكتيكي. ساروا مع أكثر من عشرة الاف من سكان المجدل و من اللاجئين، الذين لجئوا الى بيوتها و شوارعها و مبانيها العامة من القرى و البلدات المحيطة، خلف عربات الجيش المصري سالكين طريق الشاطيء جنوباً . كانوا متيقنين أنهم سيرجعون بالتأكيد قريباً الى بيوتهم. حمل جدي معه والدته و زوجته و أبناءه و بناته و ما خف وزنه و زاد ثمنه. بقي في المجدل والده، الذي يقال أن عمره كان قد قارب القرن، و أخيه و عائلته و ٢٦٠٠ نسمة. و ترك جدي دكانة عامرة بالبقالة و النول و خيوط النسيج التي كان يمتلكها في المجدل. استطاع جدي أن يستأجر بيتا في غزة و سرعان ما اسس تجارة قائمة على الصناعة اليدوية للنسيج.

لم يذكر لي عمي كل الحكاية. فعمي الذي أقتلع من ذروة طفولته عند هجرتهم لم ترق له غزة بالرغم من أن وضع والده كان فوق الريح , إذا ما قورن بالمئتي و الخمسة آلاف لاجيء الذين جاؤوها من كل مكان في فلسطين حاسبينها سفينة نوح.

لم يذكر لي عمي تعلقه بجده.، لكنني رأيت البورتريه الذي رسمه له. لم يذكر لي عمي تعلقه بالمجدل، لكن المجدل كانت تنزف حياةً في لوحاته. كان يفيض بالحكايات عن جده و جدته .

لم يذكر لي عمي انه عاد مع العائدين بعد أسابيع قلائل من استقرارهم في غزة. لم يذكر لي أن تسلل مع المتسللين إلى المجدل. عاد مع الذين كانوا يتسللون من غزة على ضوء القمر ليجلبوا الفِراش و أواني الطعام و ملابس الشتاء التي تركوها في بيوتهم. ليأتوا بما خزنوه من غلال حقولهم، و ليحلبوا ماعزهم و ليتفقدوا ما علق باحلامهم من غبار الخيام.

لم يذكر لي عمي, و أنا في ذلك العمر, أنه عاد إلى المجدل حافيا. لم يذكر لي عمي انه مكث مع جده و عمه و أسرته ما يزيد عن الثمانية عشر شهرا كي يمارس ما تبقى من طقوس الطفولة. لم يذكر لي انه كان يتسلق البيوت المهجورة باحثا عن البنانير التي تركها أقرانه. لم يذكر لي عمي شيئا عن السياج الذي أحاطوا به بيوت المجدل القديمة. لم يكن عمي البسيط يعرف شيئا اسمه الجيتو.

لم يذكر لى عمي، و انا في ذلك العمر، انه لم يترك المجدل حتى مرض جده العجوز و امتنع عن الاكل و الكلام. لم يذكر لي عمي أنه لم يترك المجدل إلا بعد أن بات السياج يضيق و يضيق على المجادلة. لم يكن عمي يعرف انه لم يترك المجدل الا بعد أن تم تعيين موشيه دايان قائدا عسكريا للجنوب. لم يكن عمي يعرف أن موشيه دايان طلب من ضابط العمليات في قيادة الجنوب ، الكابتين عاموس جوريف، أن يقدم له مشروعا لنقل الفلسطينيين من المجدل. لم يكن عمي يعرف أن يوري جيجيك، الذي صار مسؤولا لبلدية غزة مرتين في ١٩٥٦ و أثناء الانتفاضة، قد أبلغ المجادلة أن ساعة رحيلهم من بلدتهم قد ازفت. لم يكن أحد يدرك أن المجادلة لم يطردوا من الجيتو الى معسكر الاعتقال الا بعد أن أشار بن غوريون, و هو في مسبحه في طبريا, لموشية دايان بيده بأن يُجليهم بعيدا بدون أن ينبس ببنت شفة.

لم يخبرني عمي انه غادر الى غزة قبل أسابيع قلائل من وفاة جده في المجدل. لم يخبرني عمي و انا في ذلك العمر انه غادر قبل أشهر قلائل من ترحيل عمه و أسرته من المجدل إلى الخليل. لم يخبرني عمي أن عمه و اسرته كانوا قد تسللوا بعد سنتين من الظاهرية, على سنام الجمال فى جنح ظلام الصحراء، بعد أن ضاقت بهم الحال الى غزة.

لم يخبرني عمي عن كل ذلك، لكنه كان يخبرني عن الجنة، و عن ليرات الذهب التى كانت في المجدل. لم يخبرني عمي عن كل ذلك، لكنه نثر على سحر البلاد و اغرق نظري بصورها التى اختزنتها ذاكرته البصرية.



12‏/05‏/2019

هناك


هناك أشذب لغتي من غبار الكلام. أحاور الماضي غير مكترثا بما سيحمله القادم من الوقت. أطارد ظلي. أنهمك في العمل. ألاحق المواعيد. يحاربني الوقت. يباغتني الأرق. يلاحقني التعب. يستيقظ ضميري فجراً على صوت المنبه. أشرب كأسي وحيداً. أناقش نفسي. أستمر بأصدقاء بنكهة الأعداء. بمعارف بنكهة الأصدقاء. أشاركهم عشاء شبه رسمي. غذاء عمل. موعد على فنجان قهوة خارج المكتب.


هناك أحاصر نفسي بالأسئلة. تداهمني الإجابات بدون حسم. توجه إلى السلطة سهامها بدون حزم. يغويني جمال الطريق. أبحث عن المعنى في الكلاب التي تجوب الشوارع. في هديل الحمام. في دقة مواعيد وصول الحافلات. في إنضباط الإشارات الضوئية. في ألوان قوس قزح.  في مسار الدراجات الهوائية. في ملل العيش بدون إنقطاع التيار الكهربائي. في نموذجية المياه  الباردة التي تمنحها لنا الحنفية. في رتابة الأشياء. في إنتظار موعدي مع الطبيب أسبوعاً كاملا كي أقابلة عشر دقائق.في عبث الحياة. في موعد الموت . في يوم القيامة. في حكمة الألهة. في حماقة البشر. في الحفرة التي وجدت نفسي فيها مع أعداء دمي.


هناك أبحث عن هنا. أبحث عن دمي الذي لم ينزف. عن كلامي الذي لم أحكيه. عن مشاعري الدفينة. عن ذكرياتي المخفية. عن الدبكة التي لم أتقنها. عن سبب فيضان الأدرنالين من دمي في المسرح الروسي عندما إنطلق أحمد قعبور ب " أناديكم". عن المطارات. عن القطارات. عن علاقاتي السريعة التي لم تتم. عن حياتي الزوجية. عن المشي وحيدا في "درب الألام". عن إنتظاري لجودو.


هناك أستمر في عبثي. في تكرار ذاتي. في أن أكون هنا. في مداعبتي السمجة لروحي. في حنيني لمعانقة القمر. للعودة إلى دفتر الرسم. للرجوع إلى الجنة الموعودة. لإستعادة الفردوس المفقود. لاقتناء أرض جدي في المريخ. في بحثي عن أحصنة خشبية. في محاولة قياس المسافة بين عقلي و قلبي. في محاولة اختزال نفسي في بضعة أسطر.



5/9/ 2016










أولاد الغولة


ليست كاميرا خفية
ليست مزحة ثقيلة الظل
لا نهرب من الغول
لا يفترسنا – ليته فعل-
يعضنا الغول بلطف بالغ
آثار أسنانه على كل جزء من أجسادنا – أرواحنا
نشاكسه قليلا
يحتضننا الغول
نرتمي في حضنه
نبتعد عنه قليلا
نتعود على الخوف – لم نعد نعرف الخوف-
نتعود على اللعب مع الغول بالألعاب النارية و بأسنانه الصلبة 
نرمي له ببعض أطفالنا ليأكلها
يقلم أظافرنا
نمشط شعره
نستأنسه
يستغولنا




11‏/05‏/2019

أزهار الشر


( مع الإعتذار لبودلير )

لا تجزع كثيراً لأنك لست بطلاً من هذا الزمان. لا تبالي بكونك لا تتقن الكذب. لا تجيد التمثيل. لم تتعلم الديبلوماسية. لا تكثر من المجاملات. لا تجيد التفاوض. لا تؤمن بالمساومات.  لا تكترث بعدم إستقرار مشاعرك. بمزاجيتك. بغرابة أطوارك. بحدتك و ببلاهتك. بملامح وجهك التي تفصح عن موقفك.  بالعرق الذي يفيض من مسامات جلدك عندما تحرجك المفارقات. لا تخف من احمرار لون وجهك عندما تراودك نفسك بالكذب. لا تكسر الزجاج لأنه شفاف.

لا تتخلى عن ترددك. عن قد و ربما. لا تهرب إلى اليقين. لا تتسلق الأحزاب و مأذن المساجد. لا تلتزم بشروط ربطة العنق و الحلة الرسمية. أهرب من الوظيفة و من الانتماء. من الالتزام و الارتباط العضوي. من عبء الأيديولوجيا و سلطة القبيلة. واظب على عدم الرضا. على النقد الذاتي خارج حياض العشيرة. أجلد ذاتك كلما شعرت بالبلادة و بنشوة الإنتصارات الصغيرة.

لا تخجل من فشلك المتكرر. من نوبات بكائك. من دموعاك الغزيرة. من مرارة حلقك. من هستيرية ضحكاتك. من قلقك. أرقك. مللك من رتابة الأيام. من صلواتك السرية. من إلحادك المستتر. من لانمطيتك. من تناقضاتك. من تعقيداتك. من بساطتك. حافظ على ضجرك الدائم. نزقك.  إنهياراتك. تأنيب ضميرك. تحدي الواقع. نكأ جراح الماضي.

أفضل ما فيك أنك عادي جداً. حقيقي إلى حد  الفضيحة. فحافظ على عاديتك. على حزنك المستوطن. على أفراحك الطارئة. على صمتك الدائم. على ثوراتك الموسمية. على إضطرابات قلبك. على شظايا عقلك. على  شطحات جنونك. على ومضات عبقريتك. على هذيانك و رصانتك. فتش عن أنقاضك في ركام حروبك الصغيرة و حروب الدول الكبرى.

أجمل ما فيك أنك غالبا ما تعترف بخطاياك. إعترف؛ لكن لا تذهب إلى قس الكنيسة و إمام الجامع. الله في كل مكان. يملأ شرايينك و حجرات قلبك. يقرأ دفاترك و خواطرك.  يعد زفراتك و أفعالك. يحاسبك و يغفر لك. إعترف لكن لا ترجم نفسك بصلاة الاستغفار. تأمل أزهار الشر بين أصابعك. انتصر لبذور الخير في قلبك. كن عاديا كما أنت؛ حقيقيا كما عهدتك. لا تخفض رأسك للريح؛ فأنت لست قمحاً بل سروةً تسييج البيدر. لا تنجرف مع التيار حتى لا تجد نفسك طمياً للبحر. إستمر في تواضعك عند أهل التواضع؛ واظب على تعاليك على المتغطرسين. على ثوريتك المهزومة. سكونك المنتصر. انكساراتك الدائمة. إنكسركل مرة, و انبعث في كل حين.  

أعرف أنك لم تعش الحياة التي تستحقها. قُتلت ألف مرة. إحترقت كل يوم. تعذبت في كل زفرة من زفراتك. أخطأت و أصبت. توترت و إسترخيت. ثرت و هدأت. أعرف أن أحداً لم يسمع صوتك. تجاهلك الجميع. تجاهلوا عبقريتك و نبوؤتك. تهكموا على سخافاتك و تفاهاتك. احتفلوا بهزائمك أكثر مما احتفوا بانتصاراتهم. سخروا منك لأنهم كانوا يعرفون أنك تعرييهم دائماً  و تضعهم أمام مراياهم التي حاولوا كسرها. لأنك لم تخضع للمؤسسة. لم تنافق مديرك في العمل. لم تكن جزءاً من الشلة. إستنكفت عن الأحزاب و قاطعت الإنتخابات. كفرت بالنخب. أمنت بالله  لكنك لم تعبد أصنام الدين وهجرت طقوسها .لم تشتريك الشركات العالمية و المحلية. لم تتعاون مع أجهزة الأمن.أضحيت  هامشياً جداً عندما أضحى المتن خراباً. 

لا تكترث بهامشيتك. بأزهارك الذابلة و ببذورك التي  لم تنبت بعد. لا تخجل من ماضيك و لا تتملص من واقعك. لا تحزن لأنك البطل الخطأ في الزمان الخطأ في المكان الخطأ. بعد حين؛  سيكتشفون  يا عزيزي أنك كنت نبياً.  ستنجلى نبوؤتك بعد موتك. فحافظ على عاديتك و حقيقيتك في  حياتك؛  وتأمل أزهار الشر وبذور الخير في روحك, حتى ينبت الأقحوان بجوار قبرك.



الطريق إلى بورت بيتروفسك


الطريق إلى بورت بيتروفسك
(1)    
أنا ذاهب هناك. أسافر في زمان لم يعد لي. أبحر في الذكريات. أختبر طاعة اللغة. أطوي ثلاثة عقود و نيف كما يطوي طفل صغير كتابه المدرسي قبل موعد الإمتحان. أنطر إلى نفسي في المرأة. تحولت كثيراً. أنظر إلى الداخل. أنا كما أنا.
أمشى إلى ساحة التاكسيات. أشتري جريدة القدس. أجلس في المقعد الأمامي لسيارة المرسيدس التي ستتوجه إلى القدس. سأستقل سيارة أخرى إلى نابلس من القدس. عقدت العزم على التسجيل في قسم الهندسة المعمارية في جامعة النجاح, بعدما لم أجد إسمي في الدفعة الأولى للمقبولين في في قسم الهندسة المدنية في بيرزيت. يبدو أن نتائج التوجيهي في غزة الذي ظهرت بعد مثيلاتها في الضفة كانت السبب. كنت قد قدمت طلبا للإلتحاق و  جلست لأمتحان قدرات في اللغة الأنجليزية و الرياضيات و الخيارات المنطقية الرياضية . خشىت  أن يكون أدائي في إمتحان القدرات هو العائق فنتيجتي في التوجيهي كانت أكثر من مطمئنة.
والدي يصاحبني كظلي الثقيل إلى جامعة بيرزيت. الطلاب ممشوقي القوام. يلاحقونني ببشرتهم البيضاء و الزغب الذي ينبت على وجوههم. يتحدثون عن سكن الطلبة. الحياة الجامعية. المجموع المطلوب للإلتحاق بالكليات و التخصصات. يعرفون أنني من غزة. يحسبني أنصار الكتلة عليهم. أظفر بالصمت و بالمجاملات التي لا أجيدها. يحاصرهم والدي بالأسئلة. أتضايق من عودة والدي 26 عاماً إلى الخلف. أتضايق من ظلى. يمارس السياحة في الزمان و يعود إلى عمري. يحاصرني ظله. حركاتي و ملامح وجهي تفصح عن نفوري و إمتعاضي. أشعر  أنني لم أخرج بعد  من القفص. ما زلت كما أنا . الطفل الصغير الذي يقوده والده إلى المدرسة الثانوية, يقوده الأن إلى الجامعة. أشعر بوطأة " الحب القاسي".
بعد أن أنهيت المدرسة الإعدادية , إصطحبني والدي للتسجيل في المدرسة الثانوية. مشينا إلى ساحة التاكسيات على أقدامنا برفقة إثنين أو أكثر من إخوتي. أستقلينا سيارة أجرة إلى مدرسة يافا. كان والدي فخوراً بي و بمجموعي العالي. إختار أن يسجلني في المدرسة التي أصبح صديقه ناظرها مؤخراً. أستقبلنا الناظر الجديد في غرفة صغيرة, أظنها كانت لسكرتير المدرسة. الصيف يزيد من تصبب العرق من بين مسامات جلدي. يتضاعف إحساسي أنني ما زلت طفلاً. يطلب مني الناظر أن أحضر قايش. لم أكن أعرف أن القايش هو رباط يستخدم للملمة الأرواق في الملف. أذهب بحثاً عن القايش الذي لا أعرف ما هو. أعود أدراجي بدونه. أواظب على خجلى أمام ناظر المدرسة ذو الوجة الأحمر, كما أواظب على خجلى من قلة حيلتي و من سياطات الصباحات التي كانت تطاردني.
أدخل إلى قاعة إمتحان القدرات في اللغة الإنجليزية و الرياضيات و الخيارات المنطقية. لم يشفع لى مجموعي العالي في التوجيهي بأن لا ألتحق بالإختبار. أبرز بطاقة هويتي الزرقاء. أكتشف أن بطاقات هوية أبناء الضفة الغربية تتنوع ألوانا مختلفةً عن بطاقاتنا في غزة. أنكب على إجابة الأسئلة متعددة الخيارات. مبنى عمر العقاد. أتذكر مخرج فيلم الرسالة. أختلس النظر عير النوافذ الزجاجية إلى الصخور. كان المبنى يجثم عاليا على كتلة منها. لم يكن الإمتحان صعباً. كان بحاجة إلى قدر من التركيز. كانت قدماى مضغوطتان في حذاء ضيق لأخي الذي يصغرني بعام و نصف. إهترأ حذائي و كان أى صندل كافيا للتسكع في شوارع غزة, بينما كان أقراني يكدحون في المصانع و المزارع الإسرائيلية. 
أخرج من قاعة الأمتحانات مبتهجاً. أطمئن أن قبولى في كلية الهندسة صار مضموناً. كانت الهندسة هي خياري الأول و الوحيد في هذه الجامعة التي نبتت بين الصخور. وضع موظف التسجيل الخيارات الأخرى بدون أن يستشرني. كان مجموعي العالي في التوجيهي عبئاً ثقيلاً على. كنت أتوقع أن أحصل على مجموع أعلى يؤهلني أن أكون في مصاف العشرة الأوائل في الثانوية العامة. لم تمنع خيبتي أن يكون مجموع علاماتي عبئاً. صار على أن أستجيب و أن أرضخ لرغبات أسرتي و المجتمع بأن أدرس الطب أو الهندسة و أن أتخلى عن إهتماماتي بالعلوم الإنسانية و بالرسم.
كنت كريشة في مهب الريح. لم أحدد أولوياتي. لم أعرف ماذا سأدرس. كان خالي الذي أنهي معهد تدريب المعلمين في رام الله قد إلتحق بجامعة النجاح في نابلس. كان يحثني أن ألتحق بقسم الهندسة المعمارية لديه. لم يكن هناك تخصصاً مماثلاً في بيرزيت , و من ناحية أخرى, سيكون ذلك خيارا وسطاً بين رغبتي في تطوير قدراتي في الرسم و  رغبات المجتمع و الأسرة في الطب و الهندسة.
سافرنا إلى نابلس بعد أن قدمت إمتحان المستوى في بيرزيت. كانت جامعة النجاح مجموعة من المباني , التي تشبه مباني المدارس الثانوية, تتوسطها كافتيريا و مجلات حائط. جذب إهتمامي مجلة تتحدث عن عملية فدائية في معلوت. لم أكن أعرف شيئا عن معلوت. تناولنا غذائنا في شقة يتشاركها أربعة طلاب. فرشوا الأرض بأوراق جريدة الطليعة التي لم يقرأها أحد. أضحي إبن مدرس المواد الإجتماعية عضواً في الحزب. رمى  به أنصار الكتلة الإسلامية  من الطوابق العليا  في إحدى المبارزات الإنتخابية. نجا بإعجوبة.  أصبح ممثل الحزب في الجامعة. تفرق شركاء الشقة  في مناصرة الفصائل: الكتلة, فتح أبو عمار , فتح أبو موسى, و اليسار. جمعتهم غزة في شقة واحدة في نابلس.
إستبقوني في نابلس و عادوا أدراجهم إلى غزة. كان على أن أقدم طلب الإلتحاق في اليوم التالي. ذهبنا إلى مقهى الهموز حيث تقدم المشروبات الساخنة و الأرجيلة. قدموا لى مختصراً عن نظام الدراسة, الكتل الطلابية,محترفي العمل الطلابي, التطوع, الدراسات الفلسطينية و الثقافية, سجن جنيد, و لا يبخلوا على بالحديث عن  كنافة العكر التي يلتهمها الفلاحيين صباحا و أهل المدينة بعد العصر.
أقدم أوراقي للجامعة. أمشي في شوارع المدينة. أستقل الحافلة. أشاهد السمرة و مساكنهم. المستوطنون يحتلون أعالي قمم الجبال. الجبهة الشعبية تغتال ظافر المصري. بنك القاهرة-عمان يفتتح مقراً في وسط البلد. قوات الإحتلال تقتحم بيوت الطلبة. أعود إلى غزة.
كان والدى راغبا بأن أدرس الطب. كان يريد أن أحقق حلمة عبرى. قدم أوراق طلب مقعد لدراسة الطب في الإتحاد السوفياتي. لم أكن متحمساً و لم أكن رافضاً لذلك. كان الإتحاد السوفياتي أحجية تختبئ خلف ستارٍ من الزجاج المبزر. أستدان والدى 600 دينارا أردنيا, و قدمها كرسوم لدراستي في الإتحاد السوفياتي, بينما كنت على مقاعد الدراسة لتقديم التوجيهي. إستعاروا كلمة تبرع من القاموس ليطمسوا كلمة " الرسوم" الغير مناسبة لشيء إسمه منحة. أبحرت مع والدي في تردده و عدم يقينه من جدوى الدراسة في عالم خارج الدنيا. صعقتنا تشرنوبيل.  زرنا الرجل ذو الشعر الأبيض. عرض علينا عددا من مجلة الكاتب. كل ما في نسخة الكاتب كان مخصصا للتخصصات المتاحة للأجانب في عالم ليس لهم. التخصصات مبوبة و محاطة بكودات رقمية كأنها مخصصة لإطلاق الصاروخ النووي الأول. من هندسة السكك الحديدية و البترول و صيانة المصاعد الكهربية مروراً بالتخصصات الطبية. قابلت إبن الرجل ذو الشعر الأبيض الذي قدم إلى غزة في عطلة الصيف. كان يرتدي قميصاً من الحرير و قلادة من الذهب, كأنه ينفي علاقته بالبروليتاريا و حزبها الطليعي. لم يفدني كثيراً عن جنة العمال و لا عن إمبراطورية الشر. بعد أن ظهرت نتائج الثانوية, قابلت أخرين. سردوا لى الحكايات عن البرد و الحمامات الجماعية و الفصائل المتشاحنة.
لم يصلنا أي شيء عن مصير طلب المنحة – المقعد. كان مصير طلبي مثل مصير طلبات  العشرات الذين تقدموا عبر الفصائل مرتبطاً بعوامل عدة لم أكن أعلم شيئاً عنها, لكن الأكيد ان العلاقة بين موسكو و تل أبيب لم تكن على خير ما يرام. كان ذلك سببا كافيا لأن يطول الإنتظار. جدي العجوز حينها قام بمبادرة منه بزيارة أحدهم مقرعأ إياه على طول الإنتظار مشيراً إلى الرسوم – التبرع يجب ألا يضيع في حال بداية العام الدراسي بدون الإلتحاق بالدراسة.
أتصفح جريدة القدس. الصفحة الأولى تزدحم بالتعازي. خبر عن تداعيات القبض على "بولارد" في واشنطن. أقلب الصفحة الأولى. إعلان يحتل ربع الصفحة الثالثة. جامعة بيرزيت. الدفعة الثانية للمقبولين. أشاهد رقمي 986 من المقبولين في كلية الهندسة المدنية. أتحسس الثمانين ديناراً, التي كنت سأدفعها لجامعة النجاح, في جيبي. أتعبط جريدة القدس. أخرج من سيارة المرسيدس ذات الركاب السبعة. أعتذر لسائق التاكسي بأن مخططاتي بالسفر إلى نابلس قد تغيرت.      
(2)       
يحملني هواء أيلول إلى البيت. أطير كريشة مع الريح. أجتاز ثلة من الجنود الرابضين على رصيف الأسفلت.  أعبر الشوارع الترابية إلى البيت. يسكنني البيت. أوغل في أحلام يقظتي. أحلم بالهروب من المدينة المحاطة بالصبار إلى مدينة تتدثر بالقماش المخملي. أحملق في رقمي المثبت في إعلان الجريدة.
( نص غير كامل ) 


ترويض الخيبة



(نصي الأثير)

يضع الفيلم في ألة التصوير الضوئي. يجهز الكاميرا. يلقم الفلاش بأحجار البطارية. يحتضنها برفق و خفة, كأنه يحتضن وليداً هادئاً. يقتنص الفرص. ينقض على المشاهد التي تروق له.
يعلن عداد الكاميرا أنه وصل إلى الحد الأقصى للصور الملتقطة. يذهب إلى معمل تحميض الصور. يخبره عامل معمل التحميض أن عليه الرجوع بعد يوم كامل حتى يحصل على صوره. يعود إلى المعمل. لم ينتج فيلمه إلا بطاقات بيضاء خالية من أي لون أو ظل. تشق الخيبة صدره كسكين حافية. يواسي نفسه بأن صلاحية الفيلم قد تكون منتهية. يساوره الشك بتقنيات معمل التحميض. يعيد الكرة مرة ثانية و ثالثة و رابعة و خامسة.
يستمر في إحتضان الكاميرا بنفس الحميمية.  يستمر في إقتناص الفرص للضغط على زناد الكاميرا. رجل يشهق نفساً عميقاً من لفافته, كأن فيها ماء الحياة. هذا يغيب مع أفكاره و همومه. فتاه تتوهج شبقاً. إمرأة مكتنزة تغفو على كرسيها. يقتنص المشاهد. يتلصص. يبحث عن لقطاته في بقع الضوء و عند مساقط الظل. في الأزقة الضيقة. في الشوارع القديمة. في الحدائق الغناء. في شاطيء البحر الذهبي. يجوب الشوارع بكاميرته و لحيته البيضاء. يبحث عن متعته في ضحات الناس و إكتدارهم. في أخاديد الوجوه المتجعدة و في الظلال المنسابة للجلد الناعم.
يكف عن الذهاب  إلى معمل تحميض الصور. يلف الفيلم داخل الكاميرا. يخرج إسطوانة الفيلم من الكاميرا. يضع الأفلام في كل مرة على رف معين من رفوف مكتبته ليتأملها مصطفة بعلبها الإسطوانية السوداء. تتكاثر الإسطوانات السوداء على الرف. يذهب إلى فراشه البارد. يستيقظ بعد نوم مزدحم بإحلام لا يتذكر منها شيئاً  بعد الإفاقة. 



إقتحام



اليوم يدخلون غرفتي بلاإستئذان
اليوم يدخلون غرفتي ليحاصروا المكان بالصور
يعلقونها على جدار البيت و فوق محنة المخيم
ينقشونها على النياشين , 
  على دفتر الطوابع ,
على الهاتف الخلوي ,
في حرم الجامعة,
في الإذاعة المدرسية,
على غبار الكلام, 
بين أسطر وثيقة الصلح,
على الأسفلت و الطرق الإلتفافية,
و على غمد الحسام.
****
اليوم يكبرون
اليوم يكبرون فوق هامتي
و فوق هامتي تتكاثر الصور
تتربع الصور فوق نبض القلب, 
و على قلب معدة المريض
تتكاثر الصور , لأكتشف كواكباً وهميةً جديدة.
تتكاثر الصور ليدمروا كوكبي الحقيقي الوحيد .
****
اليوم يدخلون
اليوم يدخلون فاتحين
اليوم يدخلون أفكاري بلا إستئذان .
يفككوا الكلام من ألغامه,
و يحرقوا الجمل.
يكبلوا حروفي الأخيرة, و يغلقوا شفتاي,
ليمنعوا القبل.






أريحا- حزيران 1996




أفكار مشوشة


أفكار مشوشة

لا شيء يميزها عن غيرها من النساء اللواتي يملأن مطابخ البيوت, و غرف النوم , و شوارع المدينة و مرافقها. لا شيء يميز هذه المرأة التي تقف على سلم الأربعينيات من عمرها. ملامحها الباهتة, و جهها المستدير الأسمر, و جسدها المكتنز لا تختلف كثيرا عن معلمات المدارس الإبتدائية. لا توحي بشئ وسط زحام هذه المدينة التي تدور و ندور معها.
دخلت مقر البلدية لإنجاز بعض المعاملات الرسمية. وقفت  في طابور الإنتظار أمام أحد الشبابيك الخاصة بمعاملات الأحوال المدنية. بينما كنت ملتزماً مكاني في الطابور, و إذ بأصوات تخرج من حنجرة المرأة البدينة, و كأنها إنفجارات هزت المكان:
-        " أومو" .. " كريكا" .. "بخيل"
لم أفهم الكلمتين الأولتين, و لم أعرف علاقتهما بالكلمة الأخيرة, و لم تسعفني فطنتي في معرفة  سبب جلوس هذه المرأة السمراء المكتنزة بعينيها الواسعتين القرفصاء مستندة على الجدار المقابل لشبابيك دائرة الأحوال المدنية.
مستدركاً جهلى بما يحدث, نظرت إلى جاري في الطابور المصطف أمام الشباك. نظر إلى باستغراب, ثم أفادني بأن تلك الكلمات كان الأطفال يقفذفون بها الجنود الذين كانوا يلاحقونهم في أزقة المدينة, و أن المرأة البدينة السمراء ليست سوى متسولة تبحث عن بعض القطع المعدنية.
-        أما حياة تسر الصديق     و أما ممات يغيظ العدا
خرج الصوت هذه المرة متهدجاً. كأنه صوت خطيبة ماهرة في إحدى المهرجانات التي صار يساق إليها طلاب المدارس و موظفي الدوائر الحكومية. شعرت المرأة بالإستحسان, فأطلقت العنان لحنجرتها:
-        إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
صمتت المرأة قليلاً. كنت أنظر إليها من بعيد بدون أن أنتبه إلى حركة الطابور البطيئة أمام شباك معاملات الأحوال المدنية. بادرها أحد أفراد الشرطة, الذين يحرسون مقر البلدية, ممازحاً بأن ذلك الشاب الذي أشار إليه هو نائب رئيس البلدية. ضحكت باستهتار. واصل ممازحته, التي كانت تنم على تعاطف, طالبا من زميله الشاب بإحضار كأساً من الشاي للمرأة التي إستغرقت في خلوة مع نفسها.
بدأت المرأة تتحدث بكلمات غير مفهومة. يبدو أن الكلمات كانت بالعبرية. كانت كلمات متقطعة و كأنها صادرة عن جهاز لاسيلكي. أتبعت ذلك بالتوسل:
-        أعطوني هويتي.. هويتي كل أملك!!
بدأت المرأة بالبكاء. أخذت تتحدث  في السياسة, بلهجة خطابية واضحة.
صرت في مواجهة الموظف الذي يقف خلف شباك المعاملات. نظر في أوراقي. وضع أختامه و تواقيعه عليها. أعطاني وصلا يفيد باستلامه المعاملة. سألته عن إمكانية المراجعة. أجابني, و كأنه يكرر محفوظة مدرسية:
-        نقوم من جهتنا بتسليم المعاملة إلى الإدارة العليا للأحوال المدنية, التي تقوم من طرفها بتسليمها للطرف الأخر , و بعد ذلك علينا و عليك إنتظار رد  الطرف الأخر بالرفض أو الموافقة.
غادرت شباك المعاملات بينما كانت المرأة السمراء المكتنزة تلقي أبياتا من الشعر و ترتل عن ظهر قلب نداءات الإنتفاضة.
1998