11‏/05‏/2019

ستي نفيسة : كلام و صورة


لم أبحث في صورتها عن الأم تريزا و لا عن بدوية من صحراء النقب. بحثت عن نفسي في إشلاء ذكريات قبل الغياب و قبل أن يحل التعب. لم أستدعى جيشاً من الملائكة ليساعدني في نسخ صورة رمادية من ألبوم قديم,. لم أطلب من الفراشات أن تنثر ألوانها لتصير العجوز صبية. كانت بقايا الطفولة كافية في أن تتضافر مع عدم مهنيتي و جرائمي الفنية لتعيد العجوز عشرين عاماً للوراء. 

لم تكن تحكي لي "قصص الأنبياء" كزوجها. لم تقص علىَ كجدتي الثانية خراريف " نص نصيص" قبل النوم و لم تنصحني بقراءة " أية الكرسي" عندما لا تفلح الحواديت في إيداعي للنوم قبل نهاياتها . 

لم تنهرني. لم تدللنني بالأغاني و لم تهدهدني كالحمام. 

كل شيء عنها يبدو باهتاَ في الذاكرة مثل صورتها القديمة. وميضها يأتي و يذهب بلا يقين و لكن بدون شك, مثل إيمان عميق بدون طقوس. 

أخذ حصتي من قلبها. ولدت لأكون أول طفل من أبنائها الذكور الثلاثة, الذين جاءوها بعد نصف دزينة من الإناث. أخذ نصيب والدي, الثاني في سلسلة الذكور, من دلال لم أكن أدرك معناه. أخذ حصة الحفيد الأول الذي سيحمل إسم جده. 

أرافقها و جدي في الباص المتجه نحو المخيم. كان الباص شبه خاوي. كانت تحمل سلة فيها دجاجتين لم تذبحا بعد. 

تسافر جدتي إلى إبنتها في الحجاز. تعود من الحج بالهدايا و البخور و رائحة الجنة. أركب التاكسي المتوجه نحو القدس. أصاب بدوار البحر. أمشي خلفهم على شوارع أكلت الأقدام و التاريخ خشونتها. أكاد أن أتزحلق. ندخل في سراديب ضيقة تحت الأرض. الإنارة الشحيحة تبدد عتمة المغارة الضيقة المزدحمة بالحجيج و المصليين. ينحنون حتى يستطيعوا السير خلف الأنبياء. أمشي وحيدا بكل قامتي المنتصبة. ألمس أثر كعب الملائكة. يسكنني دوار البحر. أعتاد على المشي منتصب القامة برغم شعوري بثقل الملاكين الذين يجثمان على كتفاي. 

يصطحباني إلى بيتهما الذي تركاه لحين انتهاء الحرب. يتقفدان باب البيت , الجدران و النوافذ, و بيوت الجيران التي رحل عنها أهلها. يطرقان باب البيت. يسألان عن شربة ماء من الحنفية. كل شئ على حاله في البيت. يشربان الماء ببطء. عيونهما تجول في الدار. يمضغان الدمع المر. يخاف اليمني من عيونهما و رعشة أجسادهم. تلتصق حنفية قاع الدار و الجدران المطلية بالشيد في ذاكرتي البصرية . يخاف اليمني من ذاكرتي البصرية. يطردهما اليمني من البيت الذي إستوطنه. يطردنا اليمني بأدب جم. يطردنا اليمني بحزم حاسم. 

أمشي خلفها. أتعلق بأهداب ثوبها. تخرج مفتاحا من ثوبها. تتبعها إحدى بناتها. تمشي. تضع المفتاح في الباب كأنها تقوم بمهمة سرية. تفتح الباب. تدخل عمتي خلفها. الغرفة ضيقة. تبدو كأنها خالية من الأوكسجين. أدخل خلفهما فلا تكترثان. تقفلان الباب. الغرفة الصغيرة تزدحم بكل شيء. فول. سكر. طحين. برغل . رز . سكاكر. أواني. قدور. طناجر غبار و هواء قليل. كأن بقالة كانت قد أفرغت في هذا المكان المكتظ. تتناول صندوق معدني كتب عليه بخط الثلث " نادلر". تطل من الصندوق أسفل كلمة "نادلر" صورة ملونة لجمال عبد الناصر. تفتح الصندوق. أحسبه صندوق العجب و أن مارداً سيخرج منه. تمنحني قطعاً من حلوى الطوفي الملفوفة بالنايلون أخرجتها من الصندوق المعدني المذهب. أحاول أن أحرر الطوفي من النايلون فلا أستطيع. أطلب منها المساعدة. تكتشف أن حلوى الطوفي قد ساحت. تشير إلى أبنتها أن تخرج صنادق النادلر من الغرفة و أن توزع محتوياته.

تعتل صحتها. تخرج من المستشفى لتدخله. نلتقط معها صوراً ملونة. تصاب بالقدم السكرية. أعود من المدرسة مبكراً بناء على إيعاز الناظر. أحمل مع أحفادها الأخرين شموعاً في غرفة مظلمة بينما تغسل إمرأة جسدها المسجى على طاولة . يجد جهاز الجراموفون له وظيفة معتبرة بعد أن أضحى مجرد أداة للتسلية بعد إقتناء مسجلات الكاسيت. تصدح الإسطوانة بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد قارئاً لأيات من الذكر الحكيم. لا نفتح التلفزيون لأربعين يوماً إلا على نشرة الأخبار الوحيدة و الصور المتحركة. أكمل الصف الثاني الإبتدائي. نغادر بيتنا القديم ذو الساحة الواسعة إلى بيت جديد لم يكن إنشائه قد إكتمل تماما بعد. أشعر أن طفولتي قد إنتهت صلاحيتها


ليست هناك تعليقات: