11‏/05‏/2019

أفكار مشوشة


أفكار مشوشة

لا شيء يميزها عن غيرها من النساء اللواتي يملأن مطابخ البيوت, و غرف النوم , و شوارع المدينة و مرافقها. لا شيء يميز هذه المرأة التي تقف على سلم الأربعينيات من عمرها. ملامحها الباهتة, و جهها المستدير الأسمر, و جسدها المكتنز لا تختلف كثيرا عن معلمات المدارس الإبتدائية. لا توحي بشئ وسط زحام هذه المدينة التي تدور و ندور معها.
دخلت مقر البلدية لإنجاز بعض المعاملات الرسمية. وقفت  في طابور الإنتظار أمام أحد الشبابيك الخاصة بمعاملات الأحوال المدنية. بينما كنت ملتزماً مكاني في الطابور, و إذ بأصوات تخرج من حنجرة المرأة البدينة, و كأنها إنفجارات هزت المكان:
-        " أومو" .. " كريكا" .. "بخيل"
لم أفهم الكلمتين الأولتين, و لم أعرف علاقتهما بالكلمة الأخيرة, و لم تسعفني فطنتي في معرفة  سبب جلوس هذه المرأة السمراء المكتنزة بعينيها الواسعتين القرفصاء مستندة على الجدار المقابل لشبابيك دائرة الأحوال المدنية.
مستدركاً جهلى بما يحدث, نظرت إلى جاري في الطابور المصطف أمام الشباك. نظر إلى باستغراب, ثم أفادني بأن تلك الكلمات كان الأطفال يقفذفون بها الجنود الذين كانوا يلاحقونهم في أزقة المدينة, و أن المرأة البدينة السمراء ليست سوى متسولة تبحث عن بعض القطع المعدنية.
-        أما حياة تسر الصديق     و أما ممات يغيظ العدا
خرج الصوت هذه المرة متهدجاً. كأنه صوت خطيبة ماهرة في إحدى المهرجانات التي صار يساق إليها طلاب المدارس و موظفي الدوائر الحكومية. شعرت المرأة بالإستحسان, فأطلقت العنان لحنجرتها:
-        إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
صمتت المرأة قليلاً. كنت أنظر إليها من بعيد بدون أن أنتبه إلى حركة الطابور البطيئة أمام شباك معاملات الأحوال المدنية. بادرها أحد أفراد الشرطة, الذين يحرسون مقر البلدية, ممازحاً بأن ذلك الشاب الذي أشار إليه هو نائب رئيس البلدية. ضحكت باستهتار. واصل ممازحته, التي كانت تنم على تعاطف, طالبا من زميله الشاب بإحضار كأساً من الشاي للمرأة التي إستغرقت في خلوة مع نفسها.
بدأت المرأة تتحدث بكلمات غير مفهومة. يبدو أن الكلمات كانت بالعبرية. كانت كلمات متقطعة و كأنها صادرة عن جهاز لاسيلكي. أتبعت ذلك بالتوسل:
-        أعطوني هويتي.. هويتي كل أملك!!
بدأت المرأة بالبكاء. أخذت تتحدث  في السياسة, بلهجة خطابية واضحة.
صرت في مواجهة الموظف الذي يقف خلف شباك المعاملات. نظر في أوراقي. وضع أختامه و تواقيعه عليها. أعطاني وصلا يفيد باستلامه المعاملة. سألته عن إمكانية المراجعة. أجابني, و كأنه يكرر محفوظة مدرسية:
-        نقوم من جهتنا بتسليم المعاملة إلى الإدارة العليا للأحوال المدنية, التي تقوم من طرفها بتسليمها للطرف الأخر , و بعد ذلك علينا و عليك إنتظار رد  الطرف الأخر بالرفض أو الموافقة.
غادرت شباك المعاملات بينما كانت المرأة السمراء المكتنزة تلقي أبياتا من الشعر و ترتل عن ظهر قلب نداءات الإنتفاضة.
1998




ليست هناك تعليقات: