12‏/06‏/2019

بلقيس


اليوم تذكرت بلقيس. اليوم تذكرت جوقة الأطباء العراقيين الذين عملت معهم. تذكرت نفسي و انا اجري بين غرف المرضى , و بين المختبر و بنك الدم . تذكرت بلقيس. لم تكن بلقيس هذه "بلقيس الراوي" زوجة " نزار قباني" , التي قتلت في تفجير السفارة العراقية في بيروت.

تذكرت بلقيس و تذكرت نفسي و تحسرت على حالتنا. تذكرت الدكتورة رشا الطبيبة العراقية . لم اكن اعرف ان كانت الدكتورة رشا قد تخرجت حديثا من بغداد ام من البصرة ام من الموصل. كانت رشا شقراء مثل السويديات و رزينة و صارمة كضابط انجليزي. لم يخطر ببالي يومها أن اسالها إن كانت ايزيدية أم كلدانية. لم اكن اعرف حتى ان كان في العراق شيعة و سنة. كنت غارقا في مطالعاتي لفالح عبد الجبار؛ لم اكن قد قرأت لحنا بطاطو بعد. كنت قد شاهدت الفسيفساء في خرائب قصر إبن هشام في أريحا, لكنني لم اكن اعرف شيئاً عن الفسيفساء الإثنية و الطائفية في العراق. كانت نساء العراق يتوشحن بالسواد و كانت رشا تسفر عن اجمل وجه قادم من أرض السواد. كانت العراق تتشح بالسواد, لكن لم يخطر في أسوأ ما يمكن أن يدور في مخيلتي أن بنات العراق سيصبحن سبايا في سنجار.

اليوم تذكرت بلقيس. كدت أن أقبل بلقيس. كدت أن أقبل وجه بلقيس. كدت أن أقبل جبين بلقيس. كنت انظر للملائكة في عيون بلقيس. كنت أنظر للرخام البلوري في جسد بلقيس. كانت بلقيس ترسم صورة زاهية للعراق بالرغم من كل الاخبار القادمة من بغداد. كانت جوقة الأطباء العراقيين تعزف قصيدة موطني قبل أن يختاره العراق نشيدا وطنيا. لم يكن اي قسم في المستشفى يخلو من طبيب عراقي. من طبيب متطوع أو مقيم أو استشاري يندر وجود ند له في كل المشرق العربي. الدكتور الطائي ذكرني بالعرب العاربة و المستعربة. و طبيب مقيم في قسم الاذن و الحنجرة كان يذكرني بالبشاشة. و الدكتور دارا الكردي في قسم جراحة الأعصاب كان يقرص ضميرى العربي و يكتب حلبجة و الكيماوي على ثنايا دماغي بالرغم من وجهه الضحوك. و استشاري الامراض النفسية ذكر لي بأن اشهر اخصائي للصحة النفسية في غزة كان زميله في لندن عندما كانا يقدما امتحانات الزمالة و افشي لي سرا بأن كل المحاولات العديدة لصاحبنا الغزي في النجاح في امتحان الزمالة باءت بالفشل. كلهم كانوا يذكرونني بحب العراقيين لفلسطين و كلهم كانوا يذكرونني بأن كل زبد العراق كان يهرب منها بينما كان صدام يحتفظ بابي بكر الصحاف و عشرات الملايين من العراقيين المنهكين.

اليوم تذكرت بلقيس. تذكرت سباقي مع الوقت حتى احضر اكياس الصفائح الدموية و حتي لا تفوتني نتائج اخر تحليل للدم. تذكرت نفسي و أنا أنزل من تلال العلي مشيا على الأقدام. تذكرت كيف كنت أستقل الحافلة من المدينة الرياضة لأصل للمستشفى صباحا . تذكرت كيف بدأت ألهث و أنا أصعد الدرجات المؤدية لمستشفي الجامعة و أنا في الثامنة و العشرين من عمري. تذكرت أني أوعزت ذلك لبدئي تدخين الروثمان بدلا من الفايسروي. تذكرت نفسي و انا القادم من دولة عظمى تبخرت من الخرائط لتدخل كتب التاريخ. تذكرت نفسي و انا القادم للتو من مناوشاتي الصامتة مع ضباط لم يكونوا قد أتموا بعد محاولاتهم البائسة في تشييد جمهورية موز في اريحا. تذكرت نفسي و انا القادم من مستشفيات غزة التي كان يفتخر أولياء امرها الجدد بأهم انجازاتهم؛ كانوا يفتخرون بأنهم استطاعوا ضبط تهريب المسلتزمات الطبية من غرف عمليات المستشفيات الى العيادات الخاصة؛ لم ينتبه أولياء أمرنا الجدد و هم يعينون العولام حاداشيم في المناصب الحساسة, ذات المكافئات العالية, أن راتب الطبيب لم يكن يتجاوز أنذاك الالف و أربعمائة شيقل جديد.

اليوم تذكرت بلقيس و المريضة الشركسية و رجب الذهبي القادم من الصحراء بتوصية من أمانة العاصمة ليتلقى جرعة من العلاج الكيماوي كل ثلاثة اسابيع في مستشفي الجامعة. تذكرت كيف تعلمت خلال ثلاثة شهور أن أجري بنفسي اغلب الإجراءات و التدخلات التي من المفترض أن يجريها طبيب المستشفي من خزعة نخاع العظم حتي خزعة السائل الشوكي ، و من وضع أنبوبة في تجويف الصدر حتى سحب الماء المتراكم في البطن. تذكرت المناوبات التي تبدأ حتى لا تنتهي. تذكرت نفسي و انا اتحسس جسدي خشية من أن أكون قد اصبت بالسرطان بعد أن فقدت ستة عشر كيلوجرام من وزني خلال أقل من اثنى عشر شهرا. تذكرت بلقيس و هي تطير على بساط الريح من السرير الى السرير. تذكرت المختبر و البلازما المجمدة الطازجة و الهيبارين و سرطان الدم بانوعه و أشكاله. تذكرت أم في مطلع الأربعينيات من عمرها و هي تندب حظها على ابنها الوحيد. كانت تلوم الأطباء و ادويتهم التي حقنوا بها ابنها لعله يأتي لها بحفيد أو بحفيدة. كانت تلوم ادويتهم على إصابتة بسرطان الغدد الليمفاوية.

تذكرت بلقيس. لم يمنعني الموت الذي كان يحاصرني من كل الزوايا أن احاول ان اشارك في منح الحياة فرصة ، ولو ضئيلة. كانت الغدد الليمفاوية تضغط على فك ابنها. تذكرت كيف بدأت في الصلاة بعد أن تركتها لأكثر من أربعة عشر عاما. كان ابنها يلتقط أنفاسه الأخيرة. حاولت أن امنحه انفاسا اضافية. لم يطاوعني فكه في وضع أنبوبة التنفس الاصطناعي . لم يطاوع حتى زميلتي، التي كانت تفوقني خبرة، و التي كانت تشرف على و تشرف معي علي نفس المرضى . رأيت عزرائيل في غرفة المريض بعد منتصف الليل . صار الله الذي تركته جانبا ، نصف عمري انذاك، يلح علي كما لم يلح على من قبل، و كما لم يلح على أبداً.

اليوم تذكرت بلقيس و تذكرت نفسي. اليوم تذكرت العراق و تذكرت غزة. اليوم تذكرت كيف كانت زبدة العراق تهرب وكان صدام حسين التكريتي يحتفظ بابي بكر الصحاف و عشرات الملايين من العراقيين المنهكين بجواره حتى يتصدوا للعلوج. اليوم زفت لي الاخبار المجاز بأن قادة الفصائل يشاركون بتنفيذ مبادرة طبخ "مقلوبة المقاومة" في غزة.

اليوم تذكرت بلقيس. تذكرت أول شهادة وفاة كتبتها في حياتي.
كتبت التشخيص:
سرطان كرات الدم البيضاء .
كتبت تاريخ الوفاة:
في يوم حزين من أيام شهر رمادي من شهور عام ألف و تسعمائة و ستة و تسعين.
كتبت تاريخ الميلاد:
في يوم أخضر من أيام شهر ربيعي من عام ألف و تسعمائة و سبعة و ثمانين.
كتبت سبب الوفاة :
التَّخَثُّرُ المُنْتَشرُ داخِلَ الأَوعِيَة الدموية .
كتبت كل شيء لكنني لم اكتب شيئا عن حزني على بلقيس و لا عن سعي في نقل بلقيس على بساط الريح من سبأ إلى يوريشاليم. .
كتبت كل شيء.
كتبت اسم بلقيس.

ليست هناك تعليقات: